يتعذر نكران أهمية الدراما المصورة في رسم الإطار العام لحياتنا و التأثير الكبير على مواقفنا، حيث يعيش المشاهد منا أحداث ما يتابعه على الشاشة بشغف زائد ومتابعة مركزة ، خاصة عندما تكون الشخصيات المؤدية محببة و مقنعة ، يساعد في ذلك أيضا أحداث القصة وتدعمها فنيات استعمال الكاميرا و المؤثرات المنوعة، هذا ما يقال عنه العمل الفني المتكامل ، طبعا بما يخص السينما و التلفاز ، ما دعانا لتلك المقدمة وهذه المادة هو إعادة عرض إحدى القنوات الفضائية الفيلم المصري (عمارة يعقوبيان)، بعد إحرازه نجاحات عالية وعديدة، وبعد أن كان أضخم الأفلام إنتاجا بتاريخ السينما المصرية ، وحصده لجوائز تفوق بها على غيره.
عن الفيلم
مأخوذ عن رواية الكاتب (د. علاء الأسواني ) تحت نفس العنوان، وقد أنجز السيناريو (وحيد حامد) أما التوقيع الإخراجي فاسم (مروان حامد) وعمليات المونتاج قام بها (خالد مرعي) ،الرواية ومن ثم الفيلم يتحدثان عن حيثيات مجتمع كامل وبكل صوره ، بالأخص السلبية التي أدت لتدهور القيم العامة الحاكمة للعلاقات و المميزة لأي تكوين مجتمعي، وعند الاستمرار بأحداث الفيلم الذي بلغت مدته (160) دقيقة، تبدو الإسقاطات أكثر وضوحاً وتعمم الأحداث لتشمل المجتمع العربي كاملاً، بتركيز واضح على انخفاض المستوى الأخلاقي ، والثقافي ، والاقتصادي، وقد استعمل الكاتب أدوات بسيطة وسهلة للتعبير عن ذاك الصراع ،هذا ما زاد من أهمية الرواية .
وقائع الفيلم
كان لتوجيه الكاميرا مع الجهود المحيطة بها وبراعة السيناريو أهميته في المحافظة على روائية الفيلم بقالب درامي، وبلوحات مدروسة وصادقة تشد المتابع لها باهتمام ،ومن النقط الايجابية في الفيلم، أنه جمع كوكبة هامة من النجوم في عمل واحد، هنا كان كل نجم بطلاً بدوره، وكالعادة، حقق (عادل إمام) نجاحاً فوق نجاحاته بأدائه شخصية ابن الباشا، والفنانة (يسرا) انفردت بدور لا يتجاوز الدقائق في الفيلم (كريستين)، ولكنه ذو تأثير واضح وكيان مستقل، وكذلك نور الشريف، وخالد الصاوي، وهند صبري، وسمية الخشاب ، وأحمد راتب، وأحمد بدير، وخالد صالح ،وغيرهم.
الجنس والدعارة
عندما تكون (عمارة يعقوبيان) الرواية والفيلم، قريبة جداً إلى المجتمع العربي- كما هي- خاصة في الفترات التاريخية الأخيرة ، وبسبب التركيز على النكسات العامة، فلا بد من ظهور الجنس والدعارة بالمفاهيم العامة بوضوح، فلا ننكر أن الجنس من مقومات الحياة البشرية ، لكن على ما يبدو تأثيره علينا أكثر من غيرنا، وفي الفيلم تساوت الطبقات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية بهذا الموضوع، فابن الباشا (زكي الدسوقي)، بعد أن أمضى دراسته بأرجاء أوربا وتعرف على نسائها، بات يبحث عن المرأة أينما كانت حتى في البارات والمقاهي المسائية، وانتهت أزمة المستوى لديه بصورة جزئية بما يخص مزاجه، فكان دائما يجد من تبيع جسدها، تلك الظاهرة – بيع الجسد- تكررت كثيرا في الفيلم وبأشكال متعددة، منها قصص (زكي) مع بنات الليل، إلى (سعاد) سمية الخشاب، التي باعت جسدها (( بالحلال )) لنور الشريف(عزام)، تاجر المخدرات وماسح الأحذية سابقا، وصولاً إلى (بثينة) هند صبري، أيضا بعد أن باعت جسدها (وحافظت على عذريتها)* أسوة بزميلاتها في محل الألبسة، لصاحبه الغليظ التافه، والأشد تأثيراً هو صمت أمها تجاه هذا الفعل، وتقديمها تبريرات تدفعك للاشمئزاز والإحساس بشناعة الوضع الراهن، كل ذلك في مشهدية تشير إليك للفرق بين الجنس والدعارة، بعد أن صورت عمارة يعقوبيان تلك الانتهاكات بعيدة عن الجسد أيضا، فالدعارة السياسية كانت واضحة، وتكلم عنها الفيلم بوضوح صارخ.
السياسة الفاسدة
ماسح أحذية ، تاجر مخدرات، متستر بالدين، تاجر كبير ، عضو مجلس شعب بالرشوة، كلها صفات لشخص واحد (عزام) نور الشريف، فبعد أنا كان يمسح الأحذية في أحد الشوارع، امتلك معظم محلاته التجارية بأساليبه الملتوية، واستتر بالشعارات الدينية، كغطاء بال لأفعاله الخاطئة، التي تظهر بشرائه لمقعد في مجلس الشعب بسعر عال من الوزير الفاسد (خالد صالح)، ومن خلال تركيب لقطة ذكية ترفع فيها قبعة للكاتب والسيناريست والمخرج، فبعد الاتفاق على مبلغ الرشوة الكبير لحصول عزام على المقعد، تصافح الرجلان، وبدأا يقرآن الفاتحة على نية التوفيق، في جلسة مغلقة جداً، وهذا دليل على انعدام القيم الأخلاقية العامة و التلون الكاذب، كما هي إشارة جلية لفساد السلطتين التشريعية والتنفيذية في آن واحد، وتصويراً لضراوة الوحش في شخصية عزام، فالتزامه الديني الكاذب لم يمنعه من محاولته منع زوجته الجديدة من الإنجاب، وإجهاضها بوحشية، كما أن السياسة الفاسدة أو الفساد السياسي منع (طه) محمد إمام، الشاب المجتهد والطموح من تحقيق حلمه بالانتساب إلى كلية الشرطة. الذي تكسر أمام المبلغ العالي للرشوة المطلوبة، وأمام وظيفة والده (البواب) في إشارة واضحة للفارق الطبقي الظالم واللاموضوعي، بعد أن لاقت نتائجه صدى في تربة الفساد الاجتماعي والأخلاقي ومن ثم السياسي، مما دفع (طه) للانخراط في نطاق جره نهاية إلى الموت دفاعا عن وجوده كإنسان بعد محاولته الانتقام من الضابط الذي أمر باغتصابه أثناء التحقيق الجائر معه بعد اعتقاله، وقد كان مشهد الاغتيال في الفيلم، من اللقطات الرائعة إن كان من ناحية الإخراج السينمائي والأداء وحتى الموسيقا التصويرية، والأهم المغزى الكامل للمواقف البشرية، خاصة بعد اختلاط دم (طه) مع دم (الضابط) على الإسفلت في تصوير بأنهما ضحية، لكن كل منهما ضمن مجالها ومن خلال أدواتها.
مفردات
أفكار الفيلم كثيرة ، نابعة من مجتمع حقيقي، لذلك حقق نجاحاً باهراً، وتكلم الفيلم عن الشذوذ الجنسي من خلال شخصية (حاتم) خالد الصاوي، بعرض فلسفي وتحليل منطقي لطفولته الوحيدة، بعيداً عن والديه، وتعدي الخادم عليه، هذه القضية لم تعرض بصراحة من قبل، إن كان في السينما أو غيرها، كما قدم الفيلم حلولاً لما ذكر من أخطاء، وجاءت نهايته جميلة لطيفة تمثلت بزواج ابن الباشا الارستقراطي من بثينة الفتاة الفقيرة جداً، بعد حالة حب لم يكن لها أي ضوابط حقيقية، إن كان من حيث الفارق الطبقي أو الثقافي، ما دفع بثينة إلى رفض أذية (زكي) مع حاجتها الماسة للمبلغ المدفوع لها مقابل إجباره في لحظاته الخاصة بالتوقيع على أوراق تنازل عن ملكية خاصة به.
الحب يصنع المعجزات، والاعتراف بالآخر ضرورة قصوى لحل أزمات كثيرة، ومحاولتنا لتقليل الفارق الطبقي تجتث كثيراً من هنات أي مجتمع أحب الرقي والنظافة، فالحب والمساواة وجهان لعملة واحدة، يراد بها وفيها التميز وتحقيق الأفضل .
شريف اليازجي