يقول أحمد أمين في كتابه ظهر الاسلام : عني بعض الأدباء بتأريخ الأدب عن طريق تراجم الأدباء في الجاهلية والإسلام وجمعها في كل العصور وأشهر من فعل ذلك أبو الفرج الأصفهاني في كتاب الأغاني ، وهو كتاب حافل ، لم يؤلف مثله قبله ولا بعده ، جمع فيه من الكلام على تراجم الشعراء الجاهليين والإسلاميين والعباسيين ما لم يجمع من قبل، ولذلك استغنى به بعضهم في رحلاته وانتقالاته عن كثير من الكتب، غير أنه لم يرتبه حسب تاريخ الزمن، ولاحسب الحروف الأبجدية ، وإنما رتبه حسب الأصوات ، فإذا جاء صوت ترجم لصاحبه ، وبين نغمته ، وطريقة غنائه ، وأصل الكتاب: أن الأغاني كانت قد جمعت ، فأمر الرشيد باختيار مائة صوت منها، أي مائة دور ، فجمعت له ، فلما جاء الواثق أمر أن يختار له منها خيرها ، وأن يبدل ما لم يستحسن بما هو أعلى منه وأولى بالاختيار ، وجاء من بعده ففعلوا هذا الفعل ، فجمع أبو الفرج كل ذلك مبتدئا بأصوات الرشيد . وقد استطرد في الأخبار حسب عادة المؤلفين في هذا العصر ، وكان عالماً بالغناء من بيت أدب وغناء ، عالماً بأيام العرب وأخبارهم مما روى عن كثير من الثقات ومما قرأ من الكتب الموثوق بها وقد كان قرَّاء للكتب ، وأسند كل خبر لصاحبه ممن روى عنهم ، أو من الكتب التي أخذ منها.ويظهر أنه كان ثقة فيما ينقل ، يتحرى الأخبار ، ولا يأخذ إلا ما صح عنده .
وفي الكتاب نقد لكثير من الروايات مما يدل على علمه بالنقد . إما لأن الراوي ليس بثقة ، وإما لأن الأحداث التي رويت لاتتناسب مع الزمان والمكان والبيئة . وكان قوي النقد صحيحه ، فليس يضع من شأن الشاعر عنده أن يكون سيئ السيرة ، فاسد الخلق ، وضيع النسب ، بل يقيسه بالمقياس الفني وحده، وليس يؤثر عليه تشيعه ولا أمويته بل لا يمنعه ذلك من أن يقول الحق كل الحق ، سواء كان القائل سنياً أو شيعياً ، ولذلك كان الكتاب مصدراً تاريخياً يستدل منه على الأحوال الاجتماعية في الجاهلية والإسلام . بل هو في هذه الناحية أحسن من كتب التاريخ ، إذ هي تعتمد على أخبار الخلفاء والأمراء الرسمية فقط ، أما حالتهم الاجتماعية وحالة الشعب من لهو وترف وغناء وما إلى ذلك ، فنستنبطها من الأغاني وأخباره، لا من كتب التاريخ .
وقد ذكر أنه ألفه لرئيس من رؤسائه ، والظاهر أن هذا الرئيس هو الوزير المهلبي : فإنه كان يتصل به ويؤاكله ويحادثه ، ويسمر عنده ،ويروى الأخبار الأدبية له. وعلى كل حال فهذا الكتاب الذي ألف في القرن الرابع الهجري كان مصدراً لكل المؤلفين الذين جاؤوا بعده . وقد بذل المعاصرون جهوداً جبارة في تعرف النغمات التي ينص عليها في كتابه . ويحكي هيئاتها حتى ينتفع بالأصوات التي وردت . واعتمد عليه المستشرقون والشرقيون على السواء . وعلى الإجمال فهو نعمة من نعم القرن الرابع على الأدب.