دقائق كويليو.. و قنوات الحياة تعلم من سطورها تفاصيل حياة ..!

ولد باولو كويليو في ريو دي جانيرو عام 1947م , ( برازيلي الجنسية ) ، مارس الإخراج المسرحي و التمثيل , و عمل في تأليف الأغاني و الصحافة , ثم دخل عالم تأليف الرواية ولأنه ومنذ نشأته اهتم بالروحانيات و الأسرار المجتمعية و الحياتية , و الديانات و ديانات الشرق الأوسط تحديداً، انغمس كويليو بالعوالم الداخلية للإنسان , جردها من خلال نظرته الفلسفية , و نجح لأنه امتلك براعة التحليل ، ثم قدمهما بأسلوب روائي ممتاز . نشر أول كتبه عام 1982م تحت عنوان (أرشيف الجحيم) , وقتها لم يلاق أي نجاح , بعد حين باتت مؤلفاته تترجم إلى أكثر من ستين لغة , و نذكر من أهم مؤلفاته : إحدى عشرة دقيقة , الخيميائي , فيرونيكا, فتيات فالكيري , دليل محاربي الضوء , و غيرها…
إحدى عشرة دقيقة
منعت رواية (إحدى عشرة دقيقة) من التداول فترة , بعدها تناولتها كثير من دور النشر , ربما تكون أفضلها , دار ورد , كتاب من القطع المتوسط , يقع في 255 صفحة , ترجمتها روز مخلوف و قد احتذت الدقة في العمل مقارنة مع نسخ متعددة.
امتاح كويليو تفاصيل تبدو عادية , لكنه أكسبها أثواباً أعطتها من الأهمية ما يجعلها عناوين بحد ذاتها , امتاز بقفزات بارعة بين أحداث الرواية تؤكد أن الموهبة تخلق مع ضلوع الإنسان ، لذا يمكن عرض الرواية من خلال أفقين دائماً بينهما التقاءات , الأول عام , يمضي في وصف الحياة , جماليتها , عذاباتها , حلوها , آلامها , أمالها , بعد ما ورد في الصفحة 48 على لسان بطلة الرواية ماريا : ( الحياة هي أن تلقي بنفسك بالمظلة و تخاطر بروحك , أن تقع و تنهض , هي تسلق جبال , هي أن تريد صعود قمة نفسك , و أن تكون غير راض و قلقاً عندما لا تتمكن من ذلك ) . ضمن هذه الكلمات وما بينها , ممكن أن ترسم لحياتك طريقاً و أسلوبا , على الأقل لتحقيق ما تفكر و ترغب به , و تحس باندفاع لتكون الأفضل , بهذه الجمل ترى كماً معلوماتياً عبر عنه الكاتب ببساطة تحتاج منك وقفة أكيدة ,بعد أن تمر في الصفحة 29 لتقرأ:(الأخطاء هي طريقة لكي نتقدم ) , ترادفها فكرة في الصفحة 182 :(عندما لم يعد لدي ما أخسره حصلت على كل شيء).الكاتب و على لسان البطلة في هذه الفكرة يلتقي مع انيشتاين بعد أن قال الأخير نفس الجملة , بالطبع هي دعوى صريحة للمغامرات التي تدفعك بالنهاية لاكتشاف الحياة كاملة , والذي لا يكون إلا باكتشاف النفس أولاً , بغز مخارز متعددة في أماكن خطرة ، و لا يخفى على من جرب أن تلك الحياة خطيرة و صعبة , لكن في النهاية هنالك تكمن قوتك , و بالتأكيد الحب و الحرية و الجنس هي قمم العلاقات الإنسانية , تحتاج جهداً جماً لفهمها و ملاحظة تأثيراتها الطرفية أكثر من أساسياتها , و أكد كويليو في كامل أجزاء الرواية على أخطاء شائعة نعيشها تسبب تعاستنا لأننا بعيدون عن حقيقتها , حيث ورد في الصفحة 15 : ( الحب مصدر للمعاناة بصورة خاصة ). و يكمل في الصفحة 18 : (الشغف يفسد كل شيء).أيضاً في الصفحة 164 : (أقوى حب هو ذلك الذي يمكنه البرهنة على هشاشته).أما في الصفحة 179 : (العذاب حين يروض , هو جواز سفر نحو الحرية ) . من يقرأ الرواية يجد في كل فصولها محاولة التماس الحرية كقيمة عليا , حاول التعريف بها منذ البداية و التذكير من خلال أحداث الرواية , حتى تعريفه لتلك القيمة جاء جذاباً بامتياز . من الصفحة 89 نورد : (التجربة الحقيقية للحرية أن تحصل على الشيء الأهم في العالم دون أن تمتلكه).و إني أكيد بأننا نفكر بامتلاك حيثيات كثيرة للوصول للحرية حسب ظننا , هذا لا يتطابق مع شعاب الحياة التي نمر بها , كيف لا ؟ وقد ذكر في الصفحة 29 : (من يفقد شيئاً كان يظنه مضموناً يتعلم في النهاية بأنه لا يملك شيئاً),دائماً نلاحظ الكاتب يعرج بانعطافات غير متوقعة لتبيان ما هو أهم , فكان يسير بالمشهد الدرامي لعدة صفحات, يقف ليورد مقاطعاً من يوميات كانت تكتبها ماريا , عند قراءة تلك المقاطع تشك بحرفيتها و حرفيتها صادرة عن تلك الصبية ذات العشرين عاماً , تعمل بالبغاء , و لا تملك من التعليم إلا الثانوية العامة , ليكتشف القارئ فيما بعد بأن كويليو بعد تدخله بتحرير اليوميات استعان – إضافة لخبرته – بكتاب /علم الهوى/ للكاتبة (انتونيلا زارا). و عندما يقترب الكاتب من تخوم السعادة , يقدم صوراً تؤكد ندرة السعادة في حياتنا , فطائفة واسعة منا , تحاول باطنياً نسيان هذا الحق لتكمل حياتها ببساطة , حتى يذكر بأن امتلاكنا ليوم سعيد يعد شبه معجزة , و لربما هذه الفكرة صائبة بجدارة , فيكون من حقنا طرح الاستفسار التالي : هل دائماً السعادة أقل (كماً)في حياتنا المفروضة ؟ طيب !إذا كانت الحياة بحد ذاتها مفروضة , فلا سعادة فيها أبداً! ليبقى الدفاع الذاتي عن وجود الذات البشرية بإيجاد الحلول الواهية أو الاختباء وراء الأصابع .
حتى الآن أوردنا بعضاً مما يخص الأفق الأول , و هو عمومية الرواية , أما الأفق الآخر فهو اقترابه من حدود النفس و الذهاب إلى أبعد ما يمكن تصوره أو تقبل الحس البشري له , حيث بدأ بوصف احتياجات هذا الكائن (الإنسان) من بداية تعرفه على تضاريس جسده المادي و روحه المعنوية , عند بلوغ ماريا سن النضوج الأنثوي و رهبته الأولى , و الخوف الذي أدى فيما بعد للنشوة العظمى , بعدما قررت المغامرة و طرق أبواب المجهول , إلى آخر ما يمكن مسه من خلال تجارب نخوضها و تخوض فينا , حيث من خلال قصة طفولية جرت مع البطلة قبل كل الأحداث , نقرأ في الصفحة 11 : (عند لقاء الحب , يكون التهرب مما نتمناه موقفاً غبياً),و بما أن الرواية بنيت على أساس المشاعر الإنسانية و صمتها و دقتها , نقرأ في الصفحة 115 : (الحب ليس في الآخر, بل فينا , نحن نوقظه , لكننا نحتاج إلى الآخر من أجل هذه اليقظة , لا يكون للكون معنى ألا عندما يكون لدينا من نشاركه انفعالاتنا).
أيضاً من الثقوب الروحية التي وضع فيها أصابعه باولو كويليو (الألم) , الألم البشري الروحي , حتى لو كانت مقدماته مادية , و من خلال المقارنة في مشهدين روائيين , عرج بالأول على السادية و السادمازوخية , و أورد اسم كتاب (فينوس بالفراء) للكاتب / ليوبولد فون ساتشر مازوخ/ استشهاداً . فنقرأ في الصفحة 147 : (لا يعرف الإنسان نفسه إلا عندما يبلغ حدود ذاته).بعد أن قدم عليها فكرة في الصفحة 144 : (لن يستطيع أحد أن يهين إذا لم يتعرض هو نفسه للإهانة).هذه هي طبيعة التفكير الغريزية لكل الكائنات ,التي اكتشفتها العلوم فيما بعد , بعد الضخامة العامة لمفردات الكون أجمع , لذلك قال في الصفحة 187 : (لأجل السيطرة على الروح يجب أن تعلم السيطرة على الجسد),هنا يدفعك للتفكير بالفرق بين الألم بسبب الطبيعة و الألم بسبب الإنسان , و يدربك على قهر الألم، لا لقهره فحسب بل للسيطرة عليه و ترويضه , لتجد نفسك في وجد صوفي تصوغه كيفما أردت , اختتم تلك المقارنة حينما ذكر في الصفحة 200 : (البحث عن الفرح أهم من ضرورة الألم).
حقيقة
إحدى عشرة دقيقة , قصة حب روائية , اجتازت كثيراً من الحدود , و استندت إلى تعرية الحقائق التي نحاول إخفاءها , طرحت الجنس كما هو و كما يجب أن يكون , و كشفت معنى المقدس منه , سافرت فيها الأحداث عبر الماضي و الحاضر و المستقبل , إحدى عشرة دقيقة تعويذة من تعويذات باولو كويليو . اختتم بإحداها من الصفحة 219 : (يوجد المثل نفسه في جميع لغات العالم , البعيد عن العين بعيد عن القلب , لا يوجد أكثر خطأ من ذلك , فكلما ابتعدنا أصبحت العواطف التي نحاول خنقها و نسيانها أقرب إلى القلب , إذا كنا في المنفى أردنا الاحتفاظ بأدنى ذكرى عن جذورنا , و إذا كنا بعيدين عمن نحب , كل شخص يمر في الشارع يذكرنا به)…

شريف اليازجي

المزيد...
آخر الأخبار