على الرغم من مبايعته أميراً للشعراء ، وشاعراً للأمراء ، إلا أن أحمد شوقي كان يتحاشـى القيام بإلقاء شعره أمام جمهوره العريض ، فقـد كان يشعر ( بشعور الشاعر ) وفي قرارة نفسه ، بأن إلقاءه الضعيف ليس على مستوى قصائده ، بل لا يتناسب إطلاقاً مع شعره الجزل القويّ !. ربّما يعود هذا الأمر إلى انخفاض في طبقة صوته ، أو إلى ضعف في مقدرته على التعبير ، أو إلى صعوبة في النطق ببعض الحروف أو الكلمات ، أو إلى التهيّب من الوقوف أمام من يتلقّف شعره تلقّف الطير الجائع للحبّ المنتشر ، أو ربما يعود هذا الأمر إلى هذه الأسباب العديدة مجتمعة !.
على كل حال ، أنا لا أعرف ، وربما غيري لا يعرف أيضاً ، ما هو فعلاً السبب الحقيقي ، ولكن ما أعرفه هو أن معظم أشعار شوقي الملقاة ، إن لم أقل كلها ، لم تصل إلينا من فمه مباشرة ، بل وصلت إلينا من أفواه الآخرين !!.
وحين جاء أحمد شوقي إلى دمشق عام 1925 ، في زيارته الموثّقة التي مازالت تُذكر حتى تاريخ هذا اليوم ، تم تجهيز قصيدته النونية المعروفة التي تبدأ بهذا المطلع :
قمْ ناجِ جِلّق وانشدْ رسمَ من بانوا
مشـــــتْ على الرسمِ أحداثٌ وأزمانُ
بنــــــو أميةَ للأنبـــــــاءِ ما فتحـــــــوا
وللأحاديثِ ما ســـــــــــادوا وما دانوا
كانوا ملوكاً سريرُ الشرقِ تحتَهمُ
فهل سألتَ سريرَ الغربِ : ما كانوا
عالينَ كالشمسِ في أطرافِ دولتِها
في كلِ ناحيةِ ملكٌ وســــــــــــــــــلطانُ
لولا دمشـــــقُ لما كانت طليطلةٌ
ولا زهـــــــــــــــــتْ ببني العباسِ بغدانُ
قالَ الرفاقُ وقد هبتْ خمائلُهـــــــــا
الأرضُ دارٌ لها ( الفيحاءُ ) بستانُ
جرىَ وصفقَ يلقانا بها ( بردى )
كما يلقاكَ دونَ الخلدِ رضــــــــــــــوانُ
وقد تسابق وجهاء دمشق وعلية القوم فيهم ، إلى دعوة أمير الشعراء أحمد شوقي إلى مآدب أقاموها في منازلهم ، وكان من بين هؤلاء ، الشخصية السورية المعروفة : فخري البارودي ، الذي بات شوقي ليلتئذٍ عنده .. وقد جاء على لسان بعض الحضـور الذين كانوا في بيت البارودي ، أن أحمد شوقي قد نظـم قصيدته الخالدة تلك في هذا البيت ، كان ينظر إليهم من دون أن يتكلم ، وكأنه يعيش في عالم آخر غير العالم الذي يعيشونه هم ، كما أنه طلب منهم أن يأتوه بقواميس اللغة ، كي يتأكد أن العاصمة العراقيـة بغداد ، لها اسم آخر هو : بغدان ( بالنون ) ، فالكلمة واردة في سياق شعره .
وكان لابد من اختيار الشخص المناسب لإلقاء هذه القصيدة ، وقد وقع الاختيار على الصحفي الحموي الشاب نجيب الريس ، الذي قبل القيام بهذه المهمّة التي يتمناها الكثيرون !.
والحقيقة أن اختيار نجيب الريس لم يكن عن عبث ، فهناك صداقة متينة تربط بين الريّس وأمـير الشعراء ، ثم إن نجيب الريس بالإضافة إلى كونه صحفياً مرموقاً في تلك الأيام ، فهو شاعر مجيد يقرض الشعر ، فقد نظم عام 1922 نشـيده الوطني الخالد ، الذي ردده الملايين من الشباب العربي الظامئين إلى الاستقلال :
يـا ظـلامَ السّـجنِ خيّـمْ إنّنـا نَهـوى الظّلامـا
ليـسَ بعــدَ الليـــلِ إلاّ فجـرُ مجـدٍ يَتَسـامى
يـا رنينَ القيـدِ زدنــي نغمـةً تشجي فؤادي
إنّ فـي صوتِـك معنــىً للأســى والاضطهــادِ
يـا فرنسـا لا تغــالي لا تقولي الفتحُ طابْ
سـوفَ تأتيــكِ ليـــالٍ طعمُـها مـرُّ الحــرابْ
كان في الثانية والعشرين من عمره ، عندما اقتيد إلى المنفى في جزيرة أرواد ، إلى جانب كوكبة من أقطاب السياسة وشـيوخ الوطنية ممن هم في سن أبيه !. فكان هذا النشيد الذي جرى على لسانه .
ونعود إلى زيارة شوقي ، وإلى الحفل الضخم الذي أقيم له في قاعة محاضرات المجمع العلمي العربي في دمشق ، لقد تم اللقاء بين شاعر مصر وصحفي سورية ، وقف أحمد شوقي إلى جانب نجيب الريس حين إلقاء القصيدة ، تلبيةً لرغبة الجمهور الذي أراد مشاهدة الشاعر العظيم ، وقف الشاعر شوقي إلى جانب الصحفي الريس ، يستمع ، وينصت ، وكله خشوع وإجلال ، وقد اعترته موجة عارمة من الحياء والخجل ، وشيء من الفخر والاعتزاز ، وكان وجهه يفيض غبطة وبشراً ، لتلك الدقائق التاريخية ، أمـام هذا الجمهور الحاشد المعجب بشعره .
ولئن كنا نتحدث عن إلقاء نجيب الريّس ، فلابد لنا من أن نتحدث عن نجيب الريس نفسه ، فهو مولود في مدينة حماة عام 1898 ، وتلقى علومه الأولية في مدارسها الخاصة ، ثم نزح عنها وهو صغير السن مع والده محمود الريّس ، الذي عين رئيساً لشرطة حمص وقتئذٍ ، فتابع في حمص دراسته على يد كبار المعلّمين ، ثم في عام 1918 جاء إلى دمشق واستقر فيها .
ومن الأمور العائلية التي تخص نجيب الريس ، أنه أخ غير شقيق للشاعر بدر الدين الحامد ، فهما أخوان من أم واحدة ( من آل الجابي بحماة ) ، وُلِدا من بطن واحد ، ورضعا من لبن واحد !. وعلى ما يبدو أن مورثة الأدب قد انتقلت إليهما عبر أمهما العظيمة .
والشيء بالشيء يذكر ، فقد أراد الدكتور توفيق الشيشكلي زعيم الكتلة الوطنية في حماة ، أراد وقتئذٍ أن يشارك شاعر العاصي بدر الدين الحامد في ذلك الحفل الرائع ، الذي أقيم في دمشق بمناسبة زيارة شوقي لها ، ولكن ذلك لم يتم ، لأسباب لا ندري ما هي !. أجل ، قد تم الحفل بغياب شاعر العاصي بدر الدين الحامد .. وعندما أراد أحمد شوقي أن يسافر من دمشق إلى زحلة ، دعـاه الدكتور توفيق الشيشكلي إلى زيارة مدينة حماة ، عبر برقية مستعجلة أرسـلها إليه ، لكن شوقي أجاب شاكراً ومعتذراً ، وذلك حسب ما ورد في سجلات النادي الأدبي بحماة .
ونعود إلى نجيب الريس مرة أخرى ، فنقول بأن الريس قد عمل في الصحافة السورية محرّراً ومراسلاً ، ثم انتقل إلى جريدة ( المقتبس ) التي كان يصدرها العلامة محمد كرد علي مع شقيقه ، ثم أصدر جريدة ( القبس ) عام 1928 ، فكانت مقالاته الملتهبة فيها تقضّ مضاجع السلطات الفرنسية ، التي كانت تبسط نفوذها آنئذٍ على ربوع سورية .
أما نشيده ( يا ظلام السجن خيّم ) فقد نُسب إلى العديد من شعراء عصره ، كالدكتور عبد الرحمن الشهبندر ، وعبد الرحيم محمود ، وبدر الدين الحامد .. وغيرهم ، إلى أن نشره في كتابه ( نضال ) عام 1934 ، بالحرف الواحد ، وبالترتيب نفسه ، قطعاً للشك والوهم .
ويقال ، إن الموسيقار محمد عبد الوهاب قد لحنّه في صيف عام 1933 في عاليه بلبنان ، وسجّله في اسطوانة خاصة من اسطوانات شركة بيضافون .
في شباط عام 1952 ، توفي نجيب الريس عن عمر يناهز أربعة وخمسين عاماً ، إثر إصابته بأزمة قلبية مفاجئة .
تحية حب ووفاء إلى العظيمين الاثنين : الشاعر أحمد شوقي ، والصحفي نجيب الريس
د. موفق أبو طوق