تتملكني الحسرة …. وأنا أشاهد بأم عيني تلك المباني الجميلة ، تلك (الفيلات) الحضارية التي كانت سمة بارزة من سمات حي ( الشريعة ) ، تلك البيوت الفارهة التي هي أشبه ماتكون بالقصور الملكية المنيفة ، تلك الوحدات السكنية الرائعة التي بنى معظمها أساتذة ومدرسون في زمن قد مضى وانقضى ، حين كانت جيوبهم ملأى ، ومردودهم المالي مناسباً ، يتناسب طرداً مع مهنتهم الشريفة ، ورسالتهم السامية ، ويتوافق مع العيش الرغيد الذي كان يلازمهم ، والحياة الكريمة التي كانت تضمهم وتحتضنهم..
أجل .. أشاهد بأم عيني ، وكل يوم تقريباً ، هذه القصور الشامخة ، والآليات الثقيلة تحطم جدرانها ، و ( البلدوزرات ) الضخمة تزعزع أركانها ، ومعاول الهدم اليدوية والآلية تمعن في سحقها ، تقضي على تخطيطها الجميل ، وغرفها الواسعة ، وديكورها اللطيف ، وترتيبها الساحر ، وحجارتها البيضاء الناعمة !!. على الرغم من أن تشييدها لم يمض عليه الزمن الطويل ، وعلى الرغم من أن بناءها لم يبلغ بعد مرحلة الترهل وسن الشيخوخة …
أجل ، هكذا تزال ليقوم مكانها بناء تجاري جامد ، وشقق مخنوقة باهتة ، وكتل إسمنتية مجردة من الهيبة ، وطوابق متراصة بعضها فوق بعض ، كل ذلك في سبيل تحقيق أكبر ربح ، وجلب أعلى مردود مادي ، كل ذلك في سبيل ملء الجيوب ، بغضّ النظر عما يجلبه هذا العمل من سلبيات ، وبصرف الانتباه عن تأثيره المباشر على معالم هذا الحي ، وعلى هويته الحقيقية التي عرف بها منذ عشرات السنين !!.
مع الأسف الشديد .. المادة طغت على كل شيء ، واللهاث وراء المال هو الصفة البارزة في سلوكنا ، وتعاملنا ، ومعظم تصرفاتنا وتحركاتنا !!.
وأخيراً .. لايمكننا أن ننكر أننا بحاجة إلى توسع عمراني ، وامتداد جغرافي ، فنحن نتوق فعلاً إلى مساكن عديدة ، تستقبل هذه الزيادة غير المسبوقة ، في أعداد سكان مدينتنا ، ولكننا في الوقت نفسه نحن نتوق إلى تنظيم يليق بهذا التوسع ، ويستوعب هذه المساكن الجديدة ، لايمكن أن نترك مدينتنا تمتد وتتوسع في إطار فوضى ، وعشوائية صارخة ، دعونا نبني أحياء جديدة ، ونسعى إلى شوارع جديدة ، ونتطلع إلى ترتيب جديد ، فالمساحات الواسعة ممتدة حولنا ، والأراضي البكر تفتح ذراعيها لاستقبالنا، فلننطلق إليها ، ولنضمها إلى حدود مناطقنا المأهولة ، ولنترك العبث بمدينتنا القديمة ، لنترك أحياءها التراثية ، وحاراتها التقليدية ، التي تحمل في صورتها وتخطيطها نفحات من ماضينا ، ونسمات من تاريخنا ، وذكريات تتعلق بواقع آبائنا وأجدادنا ، ولنمتنع عن المساس ببنائها ، أو إلحاق أي أذى بهويتها ، أو التسبب في تشويهها …
د . موفق أبو طوق