ما أجمل روحَكَ وما أعذبَ شِعرَكَ!
وما أَشَدَّ صبرَكَ وما أنبل كَرَمَك!
والله لو أنني كُنْتُ كتبتُ قصائدك، وسمعت فيروز تغني كلماتي وأنا لا أجرؤ أن أقول أنها كلماتي لانتحرتُ !
كيفَ أُحَييك؟ كيف أقول كم أحبكَ؟ كيف أصفُ حزني وألمي الشديدين على شبابك أيها الشهيد النبيل؟
لو أنّك ما زلت حيّاً، لو لم تكن أنت أنت كما أنت، لما خسرت العربية واحداً من أرق شعرائها إحساساً وأنبلهم فكراً وحباً مقدساً للحياة والإنسان.
فلتكن كلماتي عنك هنا تقديراً بسيطاً وتحية مودّة لروحك..
ولد الشيخ «علي محمّد جواد بدر الدين»، يعني الشاعر «علي بدر الدين»، في بيت فقير، في قرية اسمها حاروف، قرب النبطيّة في جنوب لبنان، سنة 1949. في قريته تلك تلقّى دروسه الأولى، ليواصل بعدها المرحلة الوسطى في مدرسة النبطيّة، عاصمة المنطقة.
في سنة 1969، في سنّ العشرين، أرسله ذووه إلى النجف، بعد تدخّل رجال الدين في القرية، ليواصل دراسة الفقه هناك. إلّا أنّ دراسة الفقه لم تكن لتمنعه عن مواصلة الاهتمام بالأدب والشعر، فكان له حضوره الأدبيّ في النجف، وانتسب إلى الرابطة الأدبيّة هناك، التي كان يرأسها العلّامة مصطفى جمال الدين.
الشاعر «علي بدر الدين» كتب في شبابه، سرّا طبعا، أرقّ قصائد الغزل الرومانسي وأعفّه. هذه إحداها والتي يعرفها الجميع:
لَمْلَمْتُ ذكرى لقاءِ الأمسِ بالهُدُبِ – ورُحْتُ أحضُنُها في الخافق التَعِبِ
أيدٍ تلوّحُ من غيبٍ وتغمرني – بالدفء والضوء بالأقمار بالشُهُبِ
ما للعصافبر تدنو ثمّ تسألُني – أهملتِ شعرك راحت عقدةُ القَصَبِ
رفوفُها وبريقٌ في تَلَفُّتِهَا – تثير بي نَحْوَهَا بعضاً من العَتَبِ
حيرى أنا يا أنا والعينُ شاردةٌ – أبكي وأضحكُ في سرِّي بلا سَبَبِ
أهواهُ، من قال إني ما أبتسمتُ له – دنا فَعَانَقَنِي شوقٌ إلى الهَرَبِ
نسيتُ من يده أن أستردّ يدي – طالَ السلامُ وطالت رَفَّةُ الهُدُبِ
حيرى أنا يا أنا أنْهَدُّ مُتْعَبَةً – خلف الستائِرِ في إعياءِ مُرْتَقِبِ
أهوى الهوى يا هلا إنْ كانَ زائِرَنَا – يا عِطْرُ خَيِّمْ على الشُبّاكِ وانْسَكِبِ
الشطر الذي يقول: (نسيتُ من يده أن أستردّ يدي)، قال عنه «عمر أبو ريشة» لعاصي الرحباني: لو أنني أستطيع مقايضة شعري كله بهذا الشطر لفعلت !
ويرى البعض أن البيت الأخير هو هكذا:
أهوَ الهوى؟ يا هلا إن كان زائِرنا
والثانية هي (أنا يا عصفورة الشجنِ – مثل عينيكِ بلا وطنِ)
أهدى الشاعر هذه الكلمات للأخوين رحباني واشترط ألا يعرف أحدٌ أنها من كلماته. وبقي الشيخ علي في الظل منسيّاً نتيجة لموقعه الاجتماعي والديني…أما الرحابنة فلم يشيروا إليه حفاظا على وضعه الاجتماعي والديني.
لن نستغرب إذا علمنا بأنّه اشترط أن لا يذكر اسمه كشاعر وككاتب هذه الأغنيات، فقد كان إمام قريته، قدوتها الدينيّة وأحد قادة تحرّكات المنظمة التي انتمى إليها، وقبل كلّ ذلك، هو سليل عائلة غارقة في عالمها الدينيّ، ترفض كلّ شاذّ عن تعاليمهم وتصدّه. طلب عليّ علوم الدين طوال حياته، دون أن تتسنّى له الفرصة أن يكشف وجهه الآخر، ميله إلى الغزل في كتاباته والجانب الرومنسيّ في تصوّره لما حوله ووصفه إيّاه.
في عام 1980 اختطف وهو في طريقه إلى المسجد، ثم وجد جثة هامدة في أحد أودية الجنوب وقد توفي وهو لم يتجاوز الثلاثين من عمره، وما زال سبب استشهاده مجهولاً حتى اليوم !
مراد داغوم