لا أحد يستطيع أن ينكر أننا – والحمد لله – بألف خير .. فمجتمعنا ينعم بالأمان .. ومظاهر الحركة والنمو نراها هنا وهناك .. هذا دليل صحة وعافية من غير شك .. قلت هذا الكلام لصاحبي فقال لي : أنت متفائل جداً لأنك لاترى من الكأس إلا النصف الممتلىء .
قلت : كيف ذلك ؟ قال : ألا ترى في المجتمع الكثير من الظلم ؟ قلت : مثل ماذا ؟ قال : إن المرأة تعاني الاضطهاد في عصر حرية المرأة .. أليس من الظلم الكبير أن تزوّج فتاة لم تتجاوز الخمسة عشر ربيعاً من شيخ تجاوز الستين لأن الأب فقير يريد أن يسد أفواه أبنائه الجياع .. وماذا كانت النتيجة؟
لقد طلّقها هذا الشيخ، ورماها كأية سلعة نرميها استغناءً عنها من غير أن يعطيها أي حق من حقوقها. قلت : هذا ظلم كبير ، وهو دليل على جهل البيئة التي نشأت فيها تلك الفتاة، وقد انتقد الشاعر هذا السلوك بقوله :
ظلموك أيتها الفتاة بجهلهم
إذ زوجوك من الرجال بأشيبا
قال : ألا ترى أن الحاجة هي وراء ذلك الزواج ؟ قلت : بلى ، فالمال سلطانه قوي ، وسحره أخَّاذ ، وقد يعمي البصيرة والبصائر ، وهذا ماعناه شوقي حين قال : والمال حلَّل كلَّ غير مُحَلَّلٍ حتى زواج الشيب بالأبكار قال : إن هذا الأمر ليس مقصوراً على أن تزوّج الفتاة الصغيرة برجل كبير من إحدى الدول العربية المجاورة طلباً للمال والثراء، وإنّما هو موجود أيضاً في بعض بيئاتنا ، وذلك حين يتزوج الأب بما يعرف بزواج المقايضة ، فالأبوان يتبادلان البنات للزواج.
قلت : هذا صحيح، وهو يذكرني بأسواق النخاسة حين كان للإنسان العبد أسواق نخاسة يباع فيها ويشترى كأية سلعة من السلع.
قال : أين القانون الذي يحمي الفتيات ، ويضع حداً لما ينزل بهن من ظلم ؟ قلت : هذا كلام سليم ، فالقانون ينبغي أن يقول كلمته في هذه القضية، ولكن أليس في المجتمع قضايا مماثلة ؟
قال : بلى، فهذا شيخ نالت منه السنون ، واحدودب ظهره، تركه أولاده وحيداً.. ربَّاهم في شبابه ليجدهم في كبره، ولكنهم انفضُّوا عنه غير مبالين بأبيهم ومايحتاج إليه .. فليس له إلا البكاء، والشكوى إلى الله ، والدعاء.. قلت : هذه النماذج من الأبناء كثرت في أيامنا هذه ، ولم يكن هذا العقوق ، والقسوة بالوالدين شيئاً معروفاً من قبل، بل كان الحنان والرأفة بهما السمتين البارزتين لدى الأبناء.
قال : وقد لاتصدّق أنني رأيت ولداً يضرب أباه الطاعن في السن ، ويدعو له بالموت . قلت : ياله من عقوق نهت عنه كل القيم الاجتماعية والأخلاق ، وذلك السلوك يذكرني بقول الشاعر :
ربَّيْته حتى إذا ماتَمَعْدَدَا كان جزائي بالعصا أن أُجْلَدا
قال : أتريد أن أذكر لك أشياء أخرى في هذا المجتمع تبعث في النفس الألم، وتثير فيها الأسى ؟ قلت : نعم ولكن لابأس أن تكون في الخاطرة القادمة حرصاً على عدم إملال القارىء العزيز.
د . موفق السراج