كتب بوشكين (الشاعر والقاص) إلى صديق له يقول: ـ هاهو ذا الخريف قادم..
إنه فصلي المحبب, إذ أكون في أبهج أوقاتي, وأشد رغبة في الكتابة!
وكان الوقت خريفاً حين كتب شعراً متميزاً عميقاً عن قوة الابتكار في الكتابة الأدبية .. قال:
ـ وأنسى الدنيا..
وفي السكون العميق
أسرح في النوم الحلو بدافع مخيلتي
ويستيقظ الشعر في ذهني
وتتفتح نفسي بنفحة غنائية
فأسمع صوتها المتهدج.. وهي تناضل كالنائمة
لتزود نفسها أخيراً بالتعبير الكامل الطليق
ثم تأتيني ضيوف أطيافي تنساب في تيار !
إنهم أصدقائي القدامى وأطفال أحلامي
وتحتل عقلي أفكار الشجاعة إذا أثيرت!
فتسرع نحوها القوافي البسيطة.
و.. تبحث أصابعي عن قلمي… ويجري القلم فوق القرطاس..
وماهي إلا دقيقة .. حتى تتدفق الأشعار من غير عائق(!)
كان فصل الخريف يضفي على نفس هذا الأديب الروسي إحساساً عميقاً متدفقاً بالحياة!..
و.. كان بوشكين يعكف خلال هذا الفصل على أوراقه. ويكتب وهو نشوان !
حتى إن قصته (خريف بولدينو) هي خير نموذج في الكتابة المثمرة المبدعة!..
و.. لكل كاتب عادته… لكل كاتب أوقاته الخاصة، فكأنما يستوحي كتابته من هذا الفصل الذي يصبح فيه كل شيء بارزاً(!).
فالأوراق الذهبية تسقط!.. والأغصان تتعرى .. ومناظر الطبيعة تتغير، وتتسم بطابع الوضوح والظهور والجلاء!.. وهذا كله يسيطر على نفسية الكاتب.. يسيطر على مخيلته.. بل يسيطر عل قلبه, فلا يسعه إلا أن يشرع قلمه في الحال !..
والأدب (شعراً أم نثراً) هو وحي وإلهام(!)
الأدب ليس تقليداً واجتراراً.. وليس زيفاً وتهويماً.. الأدب حياة ناهضة وفكر واعٍ وذاكرة متقدة, وخيال خصب راق ومميز !
وفي رواية لـ (بوشكين) وهي رواية ممتعة اسمها (الصيف الحجري) يرسم لنا صورة مدهشة في أحد الأعياد وقد انتشر فيها (الطاعون) كمثل انتشار (الكورونا ) اليوم في الصين!
في هذه الرواية ينتقي بوشكين التفاصيل, ويحللها بعناية ثم يضعها في قالب روائي, وهذه عملية تعتمد على الإلهام!!
والإلهام وحده يساعد الكاتب على تركيب الصورة كلها من حادثة فردية وهوـ أعني الإلهام ـ يُعين (القاص) على خلق الماضي واستحضاره بشخوصه وأفكاره(بوشكين كتب عن انكلترا وهو لم يرها ولم يزرها قط لكنه تخيّلها (وهذا منتهى الإبداع)!!
يقول بوشكين:
ـ نحن نحتاج إلى التفاصيل لجذب الانتباه, والتركيز على (التوافه) الهامة التي تمر دون أن يلحظها القارئ! و.. القليل القليل من اللمسات يكسب القصة روحاً رقيقة! لأن لهذه التفاصيل الصغيرة مغزاها الخاص(!)
في كل ماكتبه بوشكين ( شعراً كان أم قصة ) يظهر الحس الأدبي الذي يتأثر بالحياة ويؤثر فيها , فهو يعرض لنا قبحها وجمالها, ولم تكن قيمة بوشكين الأدبية ـ العالمية إلاّ في إحساسه المرهف الشفيف, وخياله المجنح الرفيع ومشاعره الإنسانية .. وهكذا كانت تجري الحياة على سن قلمه !هكذا تعبق الأنفاس الدافئة في كل سطر كتبه!!
هكذا تتوهج الصفحات!!
والأديب وحده هو الذي ينفذ إلى أعماق أعماق الحياة..
الكاتب الأديب هو الذي يرسل نفسه الجوابة إلى الآفاق ..
الكاتب الأديب هو الذي يشعر.. ويتألم .. ويفرح .. بل ويحترق.. أيضاً(!)
الكاتب الأديب هو الذي يستوعب ويعبّر عن أروع مايراه وما يشعر به ..
لذا فهو يعبّر عن أروع مايرى, ويحكي عن أمتع ماخَبِرَ وعانى.. بأي أسلوب شاء.. وبأية صورة أراد!!