يوم نيساني آخر ، مشمس هذه المرة مع قرصة برد خفيفة ..
للوهلة الأولى تنتابك موجة من الفرح تمتد بخدر لطيف في الخلايا التي استيقظت لتوها . فرح مسروق وضيق ، لكنه يضيق أكثر وتضيق معه مسامات روحك عندما تفتح النافذة المطلة على النهر . متوقعا أن تكحل عينيك بمنظر الماء الأزرق.
تجفل عيناك إذ ترى لون المياه العكر ،بفعل الكسارات، وتهرب إلى الأحراج المجاورة التي ترتدي ثوبها الربيعي الأخاذ .
على مضض ترتشف قهوتك. تتخلى لأول مرة عن السكر القليل لأجل طعم الدفلى .. تشعر انك عاجز عن ارتكاب تحية الصباح لزوجتك واطفالك ..
صباح عكر منذ بدايته . تقرر الهروب باكرا . تنتعل إنزعاجك وتركب سيارتك متجها إلى عملك .
يسلمك العشب الندي والازهار المحتشدة على جانبي الطريق،والناس المبكرين إلى اعمالهم الحقلية ، يسلمك كل ذلك إلى جرافة شيطانية تفرغ مكانا آخر لوحش اسمنتي جديد .
ما إن تخرج من هذه اللوحة البشعة ، حتى تجد سيارة ” سابا ” بيضاء اللون متوقفة جانبا وحولها ثلاثة أطفال يتقافزون كالفراشات ، يلتقطون ما تيسر لهم من أزهار ولحظات فرح وصور سيلفي ..
تتمنى لو تفعل مثلهم او تشاركهم سعادتهم وتجمع بعض الأزاهير ثم تعود بها لأطفالك .. ليذهب العمل إلى الجحيم .
تفكر ، كم نحن مدمنون على العمل ! الناس الذي أدهشوك بداية بعجالتهم إلى عملهم ، يثيرون فيك الآن الاستغراب من إدمانهم على العمل !
” اﻹدمان على العمل مثل اﻹدمان على الكحول ،كلاهما يدمر الروح ” .. تتذكر هذا القول للروائي الامريكي سكوت فيتزجيرالد .وتتذكر انك قرأت عن سيدة ايطالية قتلت زوجها مهندس الجسور .قالت في المحكمة : ” لقد كان مدمنا على العمل .. طيلة اعوام واعوام وانا أعيش مع جسر وليس مع رجل .كانت الجسور تدخل معنا غرفة النوم .. في السهرات مع الاصدقاء كان يتحدث عن الجسور . .. في ذلك المساء كانت الازهار تغطي ضفتي النهر وكانت المياه تتدفق بالصخب والحياة .لكنه لم يكن يشاهدني او يشاهد الازهار او المياه بل كان يحدثني عن تأثير الصقيع على الخشب والحديد .. وفي تلك اللحظة فقدت السيطرة على نفسي ودفعته بكل ما املك من قوة من فوق الجسر .. ” .
تطرد هذه المساحة من التفكير السلبي وتمد يدك إلى راديو السيارة .ينبثق صوت ملائكي : يا صبح روج .. طولت ليلك ..
تندمج مع الاغنية تماما وترسل احلامك إلى شطآن مديدة تتقن الانتظار ..
وعندما تصل إلى مركز عملك ، سيكون عليك ان تخلع كل هذا عند عتبة الباب المكتب وتدخل . تلقي تحية الصباح الروتينية على الزملاء ثم تستوي خلف مكتبك قبل أن تطلب قهوتك ، سادة ، على غير العادة .
بدر ابراهيم احمد