قبل الولوج إلى القصائد الرقيقة التي ضمتها دفتا هذه المجموعة, أرى ضرورة تقديم نبذة عن مبدعها. الأستاذ علي م. أمين يحمل درجة الإجازة في الجغرافية من جامعة دمشق, بيد أن مواهبه الشعرية و النقدية و الفنية جعلته يتجاوز اختصاصه الأكاديمي, و راح يعنى بالشأن الثقافي بعامة والحركة الشعرية بخاصة في مدينتا الحبيبة, إذ برز عضواً مؤسساً في مهرجان الشعر, وهو لقاء يضم ثلة من الشعراء بدعوة من المركز الثقافي العربي في سلمية, على مدار أكثر من عشرين سنة. و كان له باع طويل في تدوين الموقف الثقافي في مدينتنا التي أولاها حبه الصرف, فأسهم في صناعة كتب تسلط الأضواء على شخصيات من أرشيف سلمية التراثي والمعاصر, وشارك في العديد من المعارض الفنية, فهو خطاط مبدع خلاق, ولوحاته ملأى بالحياة, فشكل الحروف يوحي بمضموناتها وإيحاءاتها. وما عضويته في إدارة فرع جمعية العاديات في سلمية إلا دلالة جلية على أن الهم الثقافي يشكّل شغله الشاغل, فهو و الإبداع الفني صنوان.
يسطر شاعرنا بطاقة تعريفية تحدد فضاءات روحه الرومانسية التي تتوق إلى الجمال الذي يتجسد في الكلمة والصورة المعبرتين ويسكبها في ومضة شعرية أسماها (أسرار) ولا غرو في أن لهذا العنوان قيمته السيميائية, فهو علامة على ذاتيته وفرديته:
لا تحكي عن أسراري
خلي لي وحدي أفكاري. (1)
فالأسرار التي تخصه وحده, تشكل ذاتيته الإبداعية وفرديته الفنية , وما هي إلا ولعه بالفن و الشعر الساميين الذين احتلا شغاف قلبه:
إن كنت تهوين الفنّ
فأنا عندي ما أغنى
فرشاتي و اللون المضنى
و تصاوير على الحيطان
وورودُ وأزاهير جنان
فتسلي
هذي داري
لن تجدي قصراً في داري ( من 51 – 52 )
فدار الشاعر إشارة سيميائية ترسم فضاءه الفني, إذ تكتنف عُدٌة إبداعه وخلقه الفني و منجزاته البديعة الجمال, فترى ألق فرشاته وألوانه الزاهية, وصوراً ولوحات ترسم روعة أزاهير الجنان ورونقها.
ويفضي إليها بشغفه الآخر الذي يتمظهر شعراً رقيقاً يصدر عن حنايا روحه الطافحة بالقيم الإنسانية النبيلة:
إن كنت تهوين الكتبا
تحكي قصصاً تروي أدبا
لن تجدي إلا أشعاري
و دواوينا إن تختاري
و دواتي والقلم الساري
هذا ما عندي
فاختاري. (ص 52)
إذن, هذه هي معالم هوية الفنان والشاعر علي م. أمين: فرشاة وألوان يستمدها من روحه التي تمده بمداد بكر يمضي إلى يراعه, فيجود بأسمى الصور الشعرية وأعمق المعاني الإنسانية. خير مقاربة لأشعار هذه المجموعة تتجلى في ومضة معنونة بـ (وأتى المساء), ذلك لأنها تحدد رؤيته للبوح الشعري التي تقوم على الهدوء والصفاء الروحي.
وأتى المساء
يلفنا ببرد الشتاء
والصمت و الكتب المكدسة الكثيرة
ونباح كلب شق أعنان الفضاء … (ص 8)
يشكل المساء خير فضاء لإلهامه الشعري, فجلبة النهار تتلاشى, ويسود الهدوء والصمت, وما نباح الكلاب إلا إشارة إلى بيئة شاعرنا الريفية آنذاك.
ويمضي شاعرنا قدماً في ترسيخ رؤاه للخلق الشعري, فيؤكد أهمية الصمت, فالساعة البيضاء تتكاسل في دورانها فلا يكاد يسمع صوتها, و يفتر أنين أمه التي قضت نهارها ترعى أسرتها بجد و نشاط:
و الساعة البيضاء في كسل تدور
و أنين أمي في فتور. (ص 8)
و تبدو وحدة الشاعر مكوناً رئيسياً آخر في إبداعه الشعري, فأفراد أسرته نيام, وينفرد بنفسه في حضرة كتبه الكثيرة, ويغدو التأمل سيد الموقف, فتتأجج قريحته الشعرية فتنفث نفحات تتسم بالعمق والرصانة:
و أنا مع القرطاس و القلم الصغير
و السطر تتبعه سطور
وأخط
شيئاً عابثاً فوق السطور … (ص 8)
تدل وفرة الألفاظ التي تتصل بعملية الكتابة وأدواتها (الكتبا, وقصصاً, وأدباً, وأشعاري ودواوينا, ودواتي, والقلم في قصيدة (أسرار) آنفاً, والكتب والقرطاس, وأخط , السطور) على شيوع ظاهرة الميتا شعرية التي تشيع في ثنايا هذه المجموعة؛ فأديبنا شاعر يعي أن شاعريته وشعريته هما السبيل الوحيد إلى إعادة بناء الذات الإنسانية بعد أن عاث الزيف فيها وبددها.
يتكشف سعي شاعرنا علي م. أمين نحو إعادة إحياء المثل الفاضلة في ظلال توظيفه لثنائية ضدية: ثنائية المدينة الملأى بالزيف والبهارج, والريف المطبوع على الصدق والطيبة والأصالة. يعنون شاعرنا هجائيته لحياة أهالي المدينة بمفردة “زيف” التي تبرز بمنزلة العتبة النصية التي تعيننا على الولوج إلى ثناياها بغية تذوقها وفهم فحواها. يستثمر شاعرنا تقليداً أثيراً شاع في شعرنا العربي, إذ يتخيل صديقاً ليشكو بثه وحزنه إليه, يناجي شاعرنا ذاك الصديق المتخيل, فيقول:
ضقنا ذرعاً … يا صديقي
لم يعد يصفو مزاجي
فأنا مثل الزجاج
أتصدع
ضقت ذرعاً بالمدينة
وبذؤبان المدينة. (ص 65)
تبدو روح شاعرنا صافية صفاء الماء الزلال, بيد أن هذا الصفاء سرعان ما يضمحل, فتتصدع روحه تصدع الزجاج, ذلك لأن أهل المدينة ابتعدوا عن أوليات العيش المشترك التي تتمظهر في الوئام و السلام, و غدوا ذئاباُ غدارة فتاكة لا تسعى إلا لتحقيق منفعتها الشخصية. ويتابع ش
اعرنا رصد منغصات الحياة في المدينة, فيصورها كهفاً مظلماً تنعدم فيه أنوار الطيبة والمودة الإنسانيتين, ويحاول أهل المدينة أن يستعيضوا عن أنوار الطبيعة بالألوان الاصطناعية, إلا أن محاولتهم تبوء بالفشل لأن الألوان المصطنعة لا تغني عن رونق ألوان الطبيعة المتألقة:
إنها كهف عتيق
بيضوه … لونوه
خدعوا الأبصار في زهو البريق. (ص 65 )
و يستطرد شاعرنا, فيرسم صورة قاتمة للعلاقات التي تسود في أوصال مجتمع المدينة, فيقول:
ضقت بالتدجيل ذرعاً
و العلاقات السخيفة
و بما أسموه زيفاً
بالترقي والحضارة. (ص 66)
في ضوء هذه اللوحة الفنية, تبدو المدينة بوصفها فضاءً قاتماً يفتقر إلى دفء العلاقة الإنسانية الرقيقة التي يتصدرها الصدق والوئام والتعاطف.
وأما الريف فهو مختلف كل الاختلاف عن المدينة, ففي ربوعه تتوالى مظاهر الطبيعة باتساقها و جمالياتها. يقول شاعرنا في قصيدة تحت عنوان (قريتي والحقل):
الليل و الضباب و الريح في الشعاب
و البدر في الغياب كنازح حزين
* * * *
الليل و الضب
الليل و الضباب و قرية القباب
تغفو بلا اصطخاب هدوؤها رصين (ص 53)
تشير صورة البدر بوصفه نازحاً حزيناً في أثناء رحلة أفوله إلى استثمار شاعرنا لتقنية التشخيص الفنية, إذ يضفي عليه مشاعر إنسانية رقيقة تجعله يحس أن الريف موطنه الذي ألفه, ولولا ذروة الحياة الطبيعية, لآثر ذاك البدر البقاء في أجواء الريف ليغدق عليها أنواره الساطعة, والحب في الريف نقيض (العلاقات السخيفة) التي تتفشى في أوصال مجتمع المدينة؛ فالمحب مستهام الفؤاد, وعشقه صادق لأنه يكتم أشواقه, وما اللقاء بين المحبين إلا لقاء قلبين ظامئين إلى نسغ الهوى الصادق:
سنكتم الأشواق لا نحسد العشاق
فهيا للتلاق نروي ظمئ قلبين. (ص 53)
و صفوة القول:
هذه هي زفرات شاعر نذر إبداعه الشعري لبناء صرح مجتمع إنساني سليم أساسه الوئام و التعاطف, و حين تعم هاتان الفضيلتان, ستختفي الأمراض الاجتماعية كالأثرة والحسد والعداء التي تشل الأواصر الإنسانية الحقّة.
و تحية لشاعرنا لجهوده الإبداعية هذه.
1. علي م. أمين, عندما يأتي المساء, شعر, دار باكير, سلمية, الطبعة الأولى, 2019, ص 51
أ.د. إلياس خلف