قراءة في كتاب جلال الدين الرومي من متاهات الحقيقة حتى بلوغ الجوزاء للدكتور مصطفى غالب

قبل مقاربة هذا الكتاب , نجد علينا لزاما” تجنيسه بغية تذوقه شكلا” و مضمونا”, يندرج هذا السفر الأدبي تحت لواء الأدب الحكمي أو كتابات الحكمة التي شاعت شيوعا” منقطع النظير في الآداب العالمية . ففي الأدب الإغريقي الكلاسيكي , على سبيل المثال , ساد نوع أدبي سمي ب allegory و هو قصة رمزية لها معنيان , معنى أولي أو سطحي , و معنى مجازي , و في المعنى المجازي تكمن جماليات هذه القصة و طاقاتها الإيجابية.
قام الدكتور مصطفى غالب بتأليف هذا الكتاب في عام 1981 انطلاقا” من ادراكه أن المقدمة ما هي إلا عتبة نصية تعين القارئ على استقبال النص , فقد رفد د. غالب هذا الكتاب بمقدمة ثرية اتصلت بمناقب الرومي إذا قال:
لقد كان الشيخ الحكيم جلال الدين الرومي يتمتع بمناقب سامية و أخلاق عالية و أفكار عرفانية مبدعة, لمن تعثر في كتاباته و أشعاره على ما يدل على أنه حاول التقرب من الملوك أو أصحاب النفوذ و السلطان , بل على العكس ارتبط ارتباطا” وثيقا” بتلاميذه و مريديه , و وقف ذاته على مساعدة الفقراء و المحتاجين , و تقديم المساعدات للضعفاء و المعوزين بأمانة و إخلاص , و ابتعد عن ما يمت إلى السياسة و الإمارة و الملك بأية صلة لا من قريب ولا من بعيد.
لقد كان الشيخ الحكيم جلال الدين الرومي زاهدا” في متاع الدنيا الزائل, و خير دليل على هذه الفكرة آخر وصاياه لأتباعه و تلاميذه:
أوصيكم بتقوى الله في السر و العلانية و بقلة الطعام و ترك الشهوات على الدوام و احتمال الجفاء من جميع الأنام , و ترك مجالسة السفهاء و العوام و مصاحبة الصالحين و الكرام , فان خير الناس من ينفع الناس , و خير الكلام ما قل و دل , و الحمدلله وحده. (ص17)
يشير النظر الفاحص إلى أن الدكتور غالب قد أدرك شخصية الرومي خير إدراك , فقد عرف رجاحة عقله و ترفعه عن بهارج الدنيا الزائفة , و تثمينه لتقوى الله بوصفها السبيل الوحيد لمعرفة الله و الفناء فيه.
و جاء االباحث غالب المير غالب ليضيء للقارئ سبل قراءة كتاب الرومي هذا , فمده بمقدمة نقدية شاملة سعت إلى إيضاح جوهره و اثبات عمله , فأكد أن هذا السفر ما هو إلا مجموعة من الحكايات الرمزية ذات الأبعاد التوجيهية:
رغم أن الرومي غرق في الرموز و الإشارات , و خاصة في قصصه التي أوردها على لسان االحيوانات , (قصة الأسد و الحيوانات , و الببغاء و التاجر, و الخادم و الحمار) و منح حيواناته المعرفة و الحكمة و الذكاء و حسن التصرف , و بهذا الطريق استطاع تضمين كتبه مجمل أفكاره العقائدية و بطريقة سهلة ممتعة و فيها تجارب النفس الإنسانية و نتائج اختبارات لكوامن تلك النفس و دروس و قصص و حكايات و عبر يستفاد منها. (ص9)
إذا” لقد وعى الباحث غالب المير غالب أن جماليات هذه القصص الرومية (نسبة إلى جلال الدين الرومي)و إبداعياتها في طرافتها و وعظها الرشيق. في هذه العجالة سنلقي الأضواء النقدية على “قصة الأعرابي و زوجته” , كما وردت في كتاب (جلال الدين الرومي للكفافي) كما يؤكد الدكتور مصطفى غالب:
لقد خاطبت أعرابية زوجها ذات ليلة و خرجت بالقول عن حدودهن فقالت إننا نعاني كل هذا الفقر و الشقاء, فجملة العالم سعداء و أما نحن فأشقياء, و ليس خبزنا خبزا” فطعامنا لألم و الحسد , و ليس لنا كوز , فماؤنا دمع أعيننا , و رداؤنا بالنهار حرارة الشمس و أما وسادنا و لحافنا في الليل فمن ضوء القمر. نظن قرص التمر رغيفا”, فنرفع أيدينا إلى السماء , إن مسكننا عار للدراويش , و ما نهارنا و ليلنا إلا تفكر في الرزق. و قد أصبح الأقرباء و الغرباء يفرون منا , كما فر السامري من الناس , فلو طلبت من إنسان قبضة من عدس , لقال: اسكت , جاءك الطاعون و الموت. إن للعرب فخرا” بالغزو و العطاء , و أنت بين العرب مثل الخطأ في الكتابة , و أي غزو بوسعنا و قد قتلنا بدون غزو , لقد أذهلت رؤوسنا ضربة سيف العدم , و أي عطاء نقدمه و نحن في سؤال دائم , نضرب عرق الذبابة في الهواء لنشرب دمها , فلو نزل بي ضيف و طاوعت نفسي لعمدت إلى سلب دلقه حين ينام. (ص ص 83-84)
إلى متى تتحدث حديث الخيلاء و التصنع ؟ انظر إلى أمرك و حالك , و كن ذا حياء !
إن الكبر قبيح , و لكنه من الشحاذين أقبح , فكبر الشحاذين كالثوب المبلل , في سوم بارد مثلج.
إلى متى هذا الادعاء و الغرور و الخيلاء , يا من بيتك مثل بيت العنكبوت.
متى أنرت بالقناعة روحك , و أنت لم تعرف من القناعة سوى اسمها . لقد قال الرسول : ما القناعة ؟ إنها كنز. و أنت لا تعرف الغنم من الغرم. فما القناعة إلا كنز الروح . فلا تفاخر بها يا من أنت غم و ألم لروحي! و كيف تسير مع الأمير و مع السيد و أنت تضرب عنق الجرادة في الهواء؟
إنك في صراع مع الكلاب على العظام . بل إنك لفي نواح مثل قصبة خالية الجوف. (11)
و هنا يتفاقم جنون تلك المرأة اتي تمثل النفس المضادة للعقل و ترفعه و تعففه , فتخاطب زوجها بقصد ردعه:
فلا تنظر إلي باحتقار و ازدراء

حتى لا أخبرك بما في عروقك. لقد رأيت عقلك أكبر من عقلي , فكيف رأيتني أنا الصغير العقل. فلا تتوثب علي مثل ذئب أحمق, يا من يفوق انعدام العقل عار عقله. فإن كان عقلك عقال للناس , فما هو بعقل بل بثعبان أو عقرب. فليكن الله خصما” لظلمك و مكركن و لينقشع عنا مكر عقلك. إنك أنت أيها الثعبان و أن الساحر , فواعجبا”, إنك ماسك الحية , و أن الحية , يا عار العرب! و لو عرف الغراب قبح ذاته, لذاب كالثلج من الألم و الحزن.
يلخص الرومي خطابها العنيف بإشارته إلى قساوة ألفاظها التي لا تتناسب و علاقتها الزوجية , فيستثمر كلمة “صحائف” التي تسير إلى الكلمات العديدة التي قالتها حين أنبته حين أمرها بالتحلي بالصبر: “و هكذا أسمعت هذه المرأة زوجها الشاب صحائف من خشن القول (ص 86).
لعبارة ” فلو منزل بي ضيف , و طاوعت نفسي ” طاقاتها القرائية المعبرة , ذلك لأن التدقيق النقدي يشير هنا إلى أن هذا التشاكي و التذمر إنما ينبعان من نوازع النفس الأمارة بالسوء ,و ما زوجها إلا رمز للعقل و رجاحته , لذا نراه يامرها بالصبر على الأمور , فيقول

إن العاقل لا ينظر إلى الزيادة و لا إلى النقصان , لأن كليهما يمر كما يمر السيل المندفع , فسواء أكان السيل صافيا” أم كان
معكر الوجه ,فلا تتحدثي عنه لحظة واحدة لأنه لا يدوم .ففي هذا العالم آلاف من الأحياء يحيون حياة طيبة لا هبوط فيها ولا
صعود. فالفاتحة تترنم بشكر الله على الشجرة على حين إن قوت المساء غير مهيأ لها . و العندليب يحمد الله قائلا”: أي مجيب
السائلين , إن اعتمادنا في الرزق عليك. و البان قد جعل يد الملك أمله و بشراه , و قطع رجائه في كل الرمم. و هكذا لو أخذت الأحياء, من البعوضة إلى الفيل , فإنهم جميعا” عيال الله , و الحق نعيم المعيل. (ص 84)
و ياتابع جلال الدين الرومي اسثمار أسلوبه التعليمي الوعظي الهادف, فيجعل الأعرابي يخاطب زوجته , و يقدم لها مزيد من الأمثلة التوضيحية , التي من شأنها أن تؤكد أن الزواج أو العلاقة الزوجية ما هي إلا مؤسسة شراكة تكاملية توافقية , لذا نرى الأعرابي يستغرب مواقف زوجته هذه :
لقد كنت شابة , و كنت أكثر قناعة ! وقد أصبحت طالبة للذهب و كنت من قبل ذهبا” ! لقد كنت كرمة عامرة بالثمار , فكيف أصبحت كاسدة ؟ و كيف غدوت فاسدة وقت نضوج الثمار؟
و في إطار هذا الأسلوب التوجيهي التربوي , يورد جلال الدين الرومي العديد من التشبيهات التي تعزز فكرة تناغم الزوجين و تماثلهما في التفكير و السلوك . يقول الأعرابي الزوج:
إنك زوجتي و الزوجة لا بد لها أن تتفق مع الزوج في الصفاء , حتى تجيء الأمور وفق مصالحهما . فالزوجان يجب أن يكون كل واحد منهما على مثال الآخر. ألا فلتتأملي زوجين من الأحذية أو النعال ! فلو أن واحدا” من النعلين ضاق بقدمك, فلا نفع لهذين النعلين عندك . و هل بين مصراعي الباب واحد صغير و آخر كبير؟ أم هل رأيت ذئبة اقترنت بأسد الغاب ؟ و ليس يستقيم فوق ظهر الجمل حقيبتان , إحداهما صغيرة , و الأخرى صافية الحجم. إنني أسير بقلب قوي نحو القناعة , فلماذا تذهبين أنت نحو الشناعة؟ (ص 85)
يشير التأمل هنا إلى أن الرومي ينهي هذا المشهد الحواري الدرامي الصاخب , فيخبرنا أن تلك المرأة لا يروق لها خطاب زوجها المتسامي المتعفف على ملذات هذا العالم الآفل. و تجدر الإشارة هنا إلى أن د. مصطفى غالب كان يعي أهمية العنوانات الفرعية بوصفها نصوصا” فرعية موجهة للقارئ كي يتابع هذه الحوارية , فيصدر رد الزوجة بعبارة “جواب المرأة” (ص 85) , فيقول إنها اسشاطت غضبا” , و ثارت ثائرتها:
فصاحت المراة بزوجها: أيها المغتر بمذهبه ! إنني لن أبتلع خداعك , أكثر من ذلك.
لا تحدثني بترهات من ادعائك و دعواك ! اذهب و لا تخاطبني بكبر
بيد ان الزوج لا يحسس باليأس البتة , بل تفيض روحه النبيلة بما تختزن من مثل سامية و قيم إنسانية , فيقول لزوجته , مخففا” من حتقها المتفاقم ,يسوق د. غالب حديث الزوج في ظلال عنوان إرشادي وعظي:
كيف نصح الرجل امرأته قائلا” : لا تنظري إلى الفقراء باحتقار:
فقال الأعرابي : أيتها المرأة ! أأنت امرأة أم أنت أم الأحزان ! إن الفخر فخري فلا تضربيني فوق رأسي.
إن المال و الذهب هما للرأس كالقلنسوة , و ليس يلتجئ إلى القلنسوة إلا الأصلع.
و أما من كان ذا شعر جعد كثيف , فهو أسعد حالا” بذهاب قلنسوته. إن رجل الحق مثل العين , و لهذا فإن انكشاف بصره خير من احتجابه. إن أمر الزهد يتجاوز مقدار فهمك, فلا تنظري إلى الزهد باحتقار و استهانة.
ذلك لأن الدراويش فوق الملك و المال, و لهم رزق عظيم من لدن رب الجلال.
فهل قولي الفقر فخري من الجزاف و المجاز ؟ لا بل إنه آلاف من العز الخفي و الاعتزاز!
اختبري الفقر يوما” أو يومين, لتري في الفقر غنى مضاعفا”!
اصبري على الفقر , و دعي هذا الملال , فإن في الفقر نورا”من ذي الجلال. لا تنظري بمرارة و شاهدي آلاف الأنفس, و قد أغرقتها القناعة في بحر من العسل.
و تعود الزوجة إلى رشدها , فتعلق ندامتها على الكلمات النابية التي تلفظت بها , و تؤكد أنها تلقنت درسا”في وجوب التمسك بالقناعة بوصفها سلوكا” و صراطا” مستقيما”. إذن , هذه هي الرسالة التي يتوخى الرومي ترسيخها في سفره الحكمي الوعظي هذا , فالقناعة رضا صرف لا يشوبه أي شك أو عجز ,إنه تعبير عن حب الحياة و حب الآخرين. و حين نغرس بذور الرضا و المحبة , فإننا سنجني ورودا” و ثمارا” يانعة تعبر عن امتنانها لخالقها بعبيرها و طعمها الشهي. يقول الرومي: “قلت للوردة حدثيني عن الله , ففاحت عبيرا”.” (ملحق روميات) كم جميل أن تعبر الوردة عن حبها لخالقها بتقديم أسمى ما عندها: جوهرها النفيس و سر عطائها.
الحديث يطول و يطول , لكني سأتوقف عند حقيقة من شأنها أن تعيد إلى الحياة البشرية رونقها و بهاءها : إنها المحبة الخالصة . يقول الرومي بعد أن خبر الحياة خبرة عميقة :
إن هذه الحياة أقصر من شهقة و زفيرها , فلا تغرس بها سوى بذور المحبة. (ملحق روميات)
و بعد, لا يسعني إلا تقديم آيات الشكر و التبجيل لكل من الدكتورين مصطفى غالب و نجله الكريم د. غالب غالب , فهما انكبا على إحياء تراثنا العريق الذي يؤكد عمق الرؤى الإنسانية

الناضجة و التي تمثل قيم الحياة الإنسانية الفاضلة و تذكرنا بالعصر الذهبي في الأساطير الكلاسيكية الاغريقية حين نعم بنو آدم بهناء العيش و صدق الأواصر الاجتماعية

أ.د. الياس خلف

المزيد...
آخر الأخبار