اللغة هي المادة الخام التي يصنع منها (وفيها) الأدباء نصوصهم؛ وهي مادة مقاومة، بل شديدة المقاومة. فكل كلمة تحمل على كاهلها تاريخاً متطوراً ومتغيراً من الدلالات، والمبدع وحده من يستطيع أن يضيف حمولة جديدة تختلف عن المعنى المعجمي، من خلال السياق الذي يضع الكلمة فيه. وما يجري على الكلمات يجري على الأساليب والأنماط اللغوية، نقيض ما يظنّه حراس المقابر، الذين يزعمون أن دلالات الألفاظ ثابتة، وأن أساليب التعبير من صلب اللغة وليس من عوالقها التاريخية القابلة للتعديل والتغيير والتجاوز.
وقد حسبت، وكنت مخطئاً إلى حدّ كبير، أن هذه العلاقة بين اللغة والأدب علاقة خاصة بهما وحدهما، وأن ما سمّاه خليل حاوي (جدار اللغة) الذي يحول دون التعبير عما في النفوس والرؤوس يصطدم به الأدباء والشعراء وحدهم.. وما علمت أن التدقيق المعرفي يؤكد أن هذا الجدار يقف في وجه العلماء والفلاسفة أيضاً، وإن كان ثمة فرق فإنه فرق بالدرجة فحسب.
فاللغة وسيلة للتعبير في الأدب والعلم والفلسفة.. وإن كانت تكاد أن تتحول في الأدب إلى غاية في حدّ ذاتها. والمعروف أن كل علم يقوم بالنقد والمراجعة المستمرة لوسائله وأدواته، لتصبح أكثر كفاءة وكفاية. والأمر نفسه ينسحب على الشعر والأجناس الأدبية الأخرى، التي عليها أن تنتقد أساليب اللغة وأن تراجعها باستمرار، وأن تطور هذه الأساليب، بما يتساوق مع ما يحدث في التاريخ، وكلنا يعرف أن الأسلوب قرينة من قرائن دراسة النصوص والوثائق، فالكلمات ليست ذات دلالات مستقرة، إنها كائنات حيّة تولد، وتبلغ أشدها، وتشيخ، بل وتموت. وكم من الكلمات تمّ دفنها بين صفحات المعاجم، بعد أن تم وضع كلمات أخرى أكثر قدرة وملاءمة، وإن كنت لا أنكر أن لبعض الكلمات قدرة عجيبة على الانبعاث من جديد، بعد عملية عدول أو انزياح مستمرة. والكلمات التي أعيد ضخ الحياة في عروقها لا تحمل المعاني ذاتها التي كانت تحملها في الماضي، وإن كانت لا تقطع صلتها بها قطعاً نهائياً. أما الأساليب والأنماط اللغوية فلا يجوز أن تبعث من جديد، إنها شواهد عصر، وهوية مرحلة فحسب.
اللغة، إذن، وسيلة للتعبير، ووسيلة لتفسير الخبرة والمعرفة؛ وتطوير هذه الوسيلة أمر لابد منه لتحسن القيام بمهمتها على أكمل وجه. ونقد اللغة والشغل عليها بقصد تحسينها وتطويرها نقد لوسيلة التفكير ووسيلة التعبير في آن معاً، دون أن يفهم أحد من كلامي أنني أدعو إلى تقويض اللغة، فهذا نقيض ما أفكر فيه. فالتطوير كما أفهمه يعني التقدم وفق منطق اللغة ذاتها، دون أي انقلاب على هذا المنطق وتلك الأساليب، صحيح أن كل شاعر، وكل فيلسوف، وكل صوفي (غير مدع) يستطيع أن يحمّل الكلمات المتداولة حمولات من الدلالات تختلف عما هو شائع ومتداول، لكن ذلك يحدث عادة بمقدار محسوب، وبما لا يخرج عن الآليات والقواعد التي تسمح بذلك، والتي أقرّها علماء اللغة ودارسوها.
والمشكلة التي واجهت المبدعين والفلاسفة والمتصوفة وكل من يتخذ من اللغة وسيلة للتعبير عن الحقائق، أن الكلمات والأساليب المستخدمة تحمل عوالق تاريخية وفلسفية لا يقصدها المتكلم أو الكاتب، وأنها تمتلك قوة هائلة لاستدعاء هذه العوالق حسب قوانين التداعي غير الواعية وغير المفكر بها، فاللغة هي التي تتكلم عبر الإنسان حسب (جان لاكان)، الأمر الذي يؤدي إلى سوء التواصل مع الشاعر أو الفيلسوف أو الصوفي.. أما الذي يظنّ أن القواميس ستنجده فواهم ومخطئ، وفهمه سيكون سطحياً ومضحكاً.
محمد راتب الحلاق