و كانت رحلته القصيرة في جبال الونشريس شمال غرب الجزائر ليست مجرد نزهة راعي أغنام فقط ، بل مهمة بحث عن ذئب قد زار بيته الريفي كثيرا و أدى مناسك ضيافته بنفسه على أجنحة الدجاج الكبير.
الغابات الشاسعة من الأرز الممتدة حتى هضبة سرسو لا تسمح بمشاهد واضحة لتحركات هذا الحيوان الذي يصنع لنفسه عرين ليث كئيب ..، لكن ليس هناك أكثر صوابا من الحرص على إيجاد هذا الكائن النبيل الذي لا يخاف الوقوف معلنا العداوة و الخصومة بدل التنقل من دور إلى آخر ..، ففي بعض الأحيان الثبات على موقف العداوة أفضل بكثير .. ، فلعل تماس ما نتشارك فيه يجعلنا نلتقي ..
كانت أجزاء من التربة رطبة كثيرا و تجعل أقدام الراعي تنزلق من حين إلى آخر ، فيستند إلى بندقيته البنية و يستعملها كعصا يهش بها على رؤوس أعداءه كلما استلزم الأمر، ..لكن ليس عذرا جيدا للتوقف عن البحث ، فالمماطلة فرصة لا بأس بها لفوز الآخر و جعله يتقدم بشكل أقوى و أفضل ، ..أنا إنسان ، و الإنسان لا يدر قوة من تلقاء نفسه ، بل يجب أن لا تحتفظ ذاكرته بالأشياء طويلا، كالمعدة تماما ، و يتفرغ عقله لمهام أكثر صعوبة كمطاردة ذئب مثلا..
كادت الشمس تخبو، و لم يتمكن من إيجاده بعد،.. لقد توطدت العلاقة بينهما حتى أصبحا يشعران ببغضها كما تشعر الأم بحزن وليدها..، و ربما تمكن الشعور من إحداث تغيير موعد اللقاء أو تغيير طريقته..
أحس الراعي بظل شيء ما يسير خلفه و إذ به ذئب رمادي هادئ و وقور ..، و على الفور، صوب الراعي بندقيته صوب قدمي الذئب الذي ركض برشاقة خلف مكان قد كونت منه التربة المنزلقة جبلا صغيرا..
ابتسم الراعي ابتسامة جعلت فمه ينحصر في شق واحد ، الشق الأيسر من وجهه الممتلئ بالشعر الأبيض رغم صغر سنه ، فهو لم يتجاوز الثامنة و العشرين سنة بعد. أخذ بندقيته مرة ثانية ، و اقتفى أثر أقدام الذئب حتى لمحه على مقربة من عبور الوادي و الانتقال إلى غابة أخرى ريثما تنتهي هذه المشكلة..
لا يجب حسم الأمر بالمغادرة إلى غابة أخرى، فلا وقت لتأجيل العودة إلى البيت ، أخذ الراعي مكانا ثابتا كي يمنح الذئب فرصة البقاء لحظة أخرى و يستعيد كليهما أنفاسه القصيرة من فرط الركض الطويل ، ..أخذ وبر الذئب يتحرك صوب الشمال حيث يأخذه مجرى الرياح تارة ، و صوب الجنوب تارة أخرى حيث تحركه أنفاسه و قد اتكأ على عنقه قليلا..
كان ذلك الخطأ جسيما ، انه خطأ لا يغتفر أبدا ، ..لقد اعتقد خلال تلك اللحظة أن الراعي قد توقف عن التفكير في مطاردته حين توقفت قدماه عن الحركة و السرعة ..، لم يكن للأسف أذكى من هذا الراعي الحذق الذي دق قدمه الأمامية برصاصات متتالية جعلته يتهاوى بين معبر الغابتين..
أخذ الراعي جثة هذا الذئب الذي لا يزال يصارع الخنوع بأنيابه بعد أن فقدت مخالبه كل حيلة ، و خلال لحظاته الأولى بأحضان الإنسان، أخذ يمزق كم الراعي و عيناه يصبان الحقد و الغليان في وجه الراعي الهادئ..
وضع الراعي الذئب المصاب قرب مدخل البيت و هو ممدد على احد جانبيه ، ثم دخل إلى بيته الريفي القذر ، و الذي يفوح برائحة فضلات الدجاج الطرية جراء الرطوبة الكثيفة و العالية.
لم يكن الذئب يشعر بشيء سوى رغبة في الموت ، و لا تنافس هذه الرغبة سوى رغبة أخرى، و لقد بدا له أن التظاهر بالموت هو الطريقة الوحيدة بالنجاة من هذا الموقف. تمددت جميع أوردته و عضلاته و فتح فمه بعد أن جعل جانب وجهه في زاوية ميل منفرجة عن جسده ، ثم أغمض عينيه دون أن يتحرك ، و حين سمع صوت الراعي و هو يتغنى بفوزه ببعض الترنيمات الجبلية، أمسك بنفسه كسباح ماهر.
عاد الراعي و هو ينظر إلى الذئب الذي يبدو أن الحياة قد فارق الحياة ..ثم تنهد :
من المؤسف أيها الذئب الشجاع أن تموت بهذه الطريقة ، لقد أتعبتني مطاردتك كثيرا..، ربما أنك لم تمت حقا في ذاكرة شجاعة حيوان يختار الموت بدل البقاء جبانا..
اقترب الراعي من جسد الذئب كي يتفقد أنفاسه و يتأكد من موته ؛ و فجأة ، انقض الذئب بكل قوة تمتلكها أنيابه على رقبة الراعي الذي استعمل قوة قدمه كي يدوس على إصابة قدم الذئب ، ..كان كل منهما يستعمل ضعف الآخر كي ينجو ، و استمر كل منهما يقاتل ضعفه كي لا ينتهي، و كان الراعي هذه المرة يموت فعلا ، فقد خسر جزءا كبيرا من رقبته بين أنياب الذئب، الذي حول ألمه إلى قوة مضاعفة.
.. ليس هذه المرة يا راعي الذئاب ، فكان لا بد لك أن تجرب شعور الخسارة حين لمحتك بين أرجاء خوفك تمارس أسوأ فنون القوة..
الكاتبة الجزائرية فاطمة حفيظ