إذا كان الشعر في رأي الأديب المصري أنيس منصور هو الصدى الذي يرقص مع الظلال؛ فإنه في رأيي الحقيقة التي يعكسها النقد ظلالاً ملونة تتداخل وتتباعد وتتراقص على إيقاعه حيناً، وتقف خاشعة في محراب قداسته حيناً آخر… وفي كلا الحالين فلاعاصم للنقد من سطوة الشعر.. وليس العكس كما يظن البعض… والسفر الذي نقف في محرابه اليوم فيه من القداسة ما يليق بالشآم التي حملت عناوين ثلاثٍ من القصائد فيه (دمشق – شآم – سفر الشآم) لتمتد القداسة وتشمل الوطن الكبير في العديد من القصائد (صلصال القوافي – وطني – وطن بين نبضين – عيد وشهيد ) يتخللها “أضغاث معنى”… ليصل بنا بعد استراحة مشاغِبة مع امتحان طالب الثانوية العاشق إلى قداسةِ الحب في عدة قصائد، ثم ينتهي بعد التحدي الّلغوي في “أبجدية الوله” إلى روحانيات يعلن فيها سبيله للوصول إلى “هدأة المعنى” في الحقيقة التي ينتهي بالبحث عنها: أنا راحلٌ نحو الحقيقة علّني ألقى هناك سكينتي ونجاتي وإذ دخلتُ في عالم أنس الحجار في سِفْره الشآمي من عدة أبواب ممتطيةً صهوةَ النصوص، وخضت فيه مغامرةَ فتحٍ، فإنني سأرويه لكم لعلَّه يكون مبيناً… الباب الأول: الأفكار: يتقن أنس الحجار التنقّل بين الأفكار والعبور من صورة إلى أخرى بحرفية عالية بشكل لايطغى على المضمون وإنما يخدم عمق الفكرة وفلسفتها. ففي خطابه للمستقبل يقول: تكدست في فم الأيام أسئلةٌ غير السؤال فمُ الأيام لم يذُقِ كم أمعن الجهل في تمزيق رؤيتنا فهل ستبعثُ عين الفكر من مِزَقِ؟ وفي القصيدة الأخيرة (ترتيباً وعنواناً): شاخت تآويل الرؤى بقصائدي واحدودب المعنى على الصفحاتِ هذا العمق الذي تميزت به معظم القصائد في الديوان.. بل كلها إذا استثنينا البرنامج الامتحاني لعاشق في الثانوية والتي تميزت بروح الدعابة والتلاعب بالألفاظ لتشكل جسراً يربط مفردات العشق بمفردات المنهج الامتحاني… (من الفلسفة) هل كان يعلم أفلاطون قيمتنا في الحبّ حتى بدا دوماً على ثقةِ (من اللغة العربية) أوَّلتُ مصدرَ ما ألقاه من دنَفٍ محلَّ نصبٍ على عينينِ من تُحَفِ (من الجغرافية) وشواطئ الآمال مذ هدأت نادت بهدأتها براكيني (من التاريخ) كلّ احتلالٍ قد يلاقي ثورةً إلا احتلال الحبّ صدر العاشقِ
فكانت هذه القصيدة في موقعها في الديوان وكأنها فاصل ذكي يفصل ماقبلها عمّا بعدها…إذ تميّز ماقبلها بموضوعات تحمل هموماً لاتحملها الجبال وحملها الشعر ليثقل كاهل صاحبه وكانت معاناةُ الوطن أبرزها … بينما يدخل الشاعر فيما بعدها في الوجدانيات من خلال قصائد غزلية بعضها صوفيّ النزعة وبعضها الآخر حسيّ غير خادش كما في قصيدة “نمش”… ليأتي بعد الوجدانيات فاصل آخر عبر قصيدة “أبجدية الوله” التي تحمل تحدياً لغوياً عبر تسلسل القافية فيها حسب حروف الأبجدية مع ثبات الوزن؛ حيث تتألف القصيدة من ستّةٍ وخمسين بيتاً بثمانيةٍ وعشرين قافية.. حيث جاء كلّ بيتين بحرف رويّ حسب تسلسل حروف الهجاء .. تفصل هذه القصيدة بين الوجدانيات قبلها والروحانيات بعدها، هذه الروحانيات التي تجلت في قصائد ثلاث ختم بها الشاعر ديوانه (حقيقة – هدأة المعنى –القصيدة الأخيرة)
الباب الثاني: التناص في الديوان: بدأت بهذا الباب من أبواب الشكل الشعري لأن التناص القرآني هو أكثر ما يلفت القارئ في أثناء مروره على النصوص ولو بقراءة عابرة… فقد زخرت العديد من القصائد بهذا التناص الذي جاء تقليدياً حيناً ومبتكراً حيناً آخر… ففي قصيدة “أضغاث معنى” مثلاً -وهي القصيدة التي حملت لوحدها الكثير من أشكال التناص القرآني- أحال الشاعر على حكاية هدهد سليمان آتٍ من الماضي يهدهدُ قصّةً لكنّ هدهدَ صمته ما أخبرا ثم سفينة نوح: وبنى سفين الأمنيات عجالةً ما فار تنّورٌ ولكنْ أبحرا وأتى على الخطيئة الأولى للبشرية: في التين والزيتون قصةُ أمسه قد خطّها زمنُ الخطيئة أسطرا ثم قصة يوسف التي رغم استهلاكها من قبل الشعراء قديماً وحديثاً إلا أن إحالته عليها كانت موفقة ومختلفة: قال: افتِني.. إني رأيتُ لإخوتي أنيابَ ذئبٍ حين ثار وكشَّرا والتيهُ أرشدَ في الدّجى سيّارةً والجبّ في صحراء روحي أقفرا ما كان يلبسني القميصُ كأنه عرف الحقيقة فاستقالَ تذمُّرا أوِّلْ ليَ الرّؤيا فسجنيَ ملّني علّي سأسقي الخمرَ رَبّي أنهُرا ليمرّ بعدها على قصة موسى: بِعصا التحسُّرِ شقَّ بحرَ قصيدتي وبمهجتي اثنَيْ عشْرَ جُرحاً فجَّرا وإلى حكاية أصحاب الكهف التي استخدمها استخداماً مبتكراً : يا أيها المعنى.. إلى كهفِ الهدى آوي… هروباً من شياطين القُرى كهفي يزاوِرُ عنهُ صبرٌ إن بدا ذات اليمين ولا أنال تصبُّرا واليأسُ يقرضني همومَ توجُّسي ذات الشّمالِ إذا التجلُّدُ أدبَرا والخوف يبسُطُ بالوصيدِ ذراعَه ظنّاً بأن ذنوبه لن تُغفَرا ليعود إلى قصة يوسف وتحقق الرؤيا: رؤياك حققها الزمان بعصرنا لكنّ حلمك قد أتى متأخرا ويختم القصيدة بتناص مع قصة
اصحاب القرية القرآنية “وجاء من أقصى المدينة رجلٌ يسعى” إذ يقول: وأتيتُ من أقصى الفجيعة ساعياً عدْ.. لستَ معنى…أنتَ إفكٌ مفترى
ولايقتصر التناص القرآني على أضغاث معنى وإنما تجاوزها إلى العديد من قصائد المجموعة ففي هدأة المعنى يحيل الشاعر على قصة نوح أيضاً: حملتَ في فلكك المشحون أفئدةً قد آمنَتْ ونجت من شرّ حوباء وعلى قصة صالح: إنا عقرنا نياق الله إذ شربت وألفَ (يحيى) قتلنا خلفَ بغضاء وفي القصيدة الأخيرة يقول: وجّهتُ وجهي شطر كلّ سعادةٍ فوجدتُني أعمى بكلِّ جهاتِ وفي صلصال القوافي: يأجوج مأجوج يختالان في زمنٍ ماعاد فيه ل(ذي القرنينِ) من طرُقِ وإضافة للتناص القرآني يبدو الشاعر متأثراً بقصائد القدماء حيناً والمحدثين حيناً آخر ليس تقليداً وإنما استرسالاً من لاوعيه المشبع بثقافات من أزمنة شتى أبت إلا أن تطلّ من نوافذ وعيه الشعري… كقوله في قصيدة فقر وشعر: إذا لم أعِشْ في حياتي كريماً ف خيرٌ من العيشِ في الذلِّ دفني هذا البيت الذي يحيلنا إلى بيت المتنبي المشهور: عش عزيزاً أو مت وأنت كريمٌ بين طعن القنا وخفق البنود
والتناص كما نعلم يأتي نتيجة لتشبّع الشاعر بثقافات تعشش في عمق روحه لتنفذ إلى انسكابات يراعه متخفية عن وعيه الذي يسعى للتفرّد والاستقلالية… الباب الثالث: التصوير: في سفر الشآم لانقرأ شعراً فقط.. بل نقرأ شاعراً امتلك ناصية القصيدة بمهارة فائقة… قدرته اللافتة على التصوير تجعلنا نعيش معه مشهدية الصورة حتى قبل تحليلها واستيعاب دلالاتها.. في “رسالة إلى المستقبل” يقول: تخثّر البوح في شريان أحرفنا والنوح بعثر أبياتاً من القلقِ وفي”القتيل” يصل إلى توصيف لحالة الشاعر حين ولادة القصيدة: هو الشاعر المقتول فوق قصيده يشيّعه عتمُ الزمان وقاتله وفي قصيدة “سفر الشآم” الكثير الكثير من الصور التي تبني مشهديّة متماسكة لحال الوطن الدامي بصراعاته وهجرة أبنائه وتكالب الأمم عليه: زمنٌ تأبّطَ فتنةً ثمّ ارتدى ثوبَ الفضيلةِ كي يغيِّرَ مظهرهْ سيشيِّع النهرُ الضّفافَ بصمتهِ وتلوكُ أشلاءَ الشجاعةِ مقبرهْ وسيعلنُ البحرُ الحدادَ فقد رأى للحربِ (هولاكو) يشَمِّرُ مئزرهْ رحلَ السنونو نحوَ (روما) خِلسةً وأقامَ عطرٌ في أزقَّةِ (أنقرَهْ)
لترى بصيرة الشاعر ماكان عليه الوطن سابقاً من تماسك ومحبة: والضّوءُ في رَحمِ القصيدةِ شفَّني فرأتْ بصيرةُ خافقي مالم أرهْ فيصل من خلالها لإشعال فتيل الأمل: و (نزار) أومأ لي بطرْفِ قصيدِهِ (بَسمِلْ) لتذهبَ فكرةٌ مُستنكَرهْ “باسم الشآم” فغاب عني هاجسي وبكيتُ أرجو من دمشق المغفرهْ وفي “أبي في الرؤيا” صورة لفتوّة الابن في حضرة الأب مهما بلغ من العمر: وأمعنتُ في ذكراكَ والعمرُ واقفٌ فحبُّكَ سِنٌّ ما فتئتُ أراهقُهْ وفي “سامحيني”: أنا معطفٌ أبلَتهُ أيامُ الضّنى لا تلبسيني ذنبي بأني مثقلٌ بالذكريات فسامحيني ومن أكثر مالفتني تلك الصورة التي ختم بها “صلصال القوافي”: بعضي يسائل: هل ألقاك ياوطني عمّا انتظارٍ وقدْ عوفيتَ من رَهقِ يبقى جوابك في صدري أردّده أنْ سورةُ (النصر) بين (الفجر) و (الفلقِ)
الباب الرابع: موسيقا الشعر الديوان يضم ستاً وعشرين قصيدة كلها تتخذ من عمود الخليل أساساً لبنائها ماعدا واحدة حملت من أثر الخليل إيقاع ال(مفاعلتن) ومضت تختال بانعتاقها الجزئي من مدار هذا العمود… ولست أدري السبب في ابتعاد الشاعر عن التفعيلة مع أنه يبدع فيها.. لعله يرى فيها خيانة لعمود الشعر أو ميلاً عن الكلاسيكية الشعرية في الشكل، وهو يخشى ربما أن يكون بداية أو ذريعة للبعض للابتعاد الكامل عن موسيقا الشعر وربما كان هذا التمسك بالكلاسيكية الخليلية رداً عملياً على الدعوات التي يطلقها بعض مدّعي الحداثة للتفلّت التام من الأوزان الشعرية التي لم يتذوقوا أصالتها ولم يتقنوا إيقاعها… ومع ذلك أرى في التفعيلة نمطاً خليلياً حديثاً يتراقص إيقاعه على الأسطر المختلفة الطول والقافية ليثبت أن الحداثة ليست في التفلت من الأصالة بل في تطويرها وتطويعها… بالتأكيد هذا لايعني الابتعاد عن عمود الشعر بالمطلق ولكن أن لا يقاوم الشاعرُ نفسَه التي تتوق للانطلاق إلى التفعيلة حفاظاً على الأصالة كما يفعل أنس الحجار… جاء نصف قصائد المجموعة على البحر الكامل بينما توزع النصف الباقي بين البسيط والوافر بالدرجة الأولى ثم الطويل بثلاث قصائد والمتقارب بقصيدتين وقصيدة لمجزوء الكامل… تنوعت أوزان مقاطع المطوّلة الأولى “البرنامج الامتحاني لعاشق في الثانوية” بينما جاءت المطوّلة الثانية “أبجدية الوله” بكاملها على البحر الكامل. الباب الخامس: المفردات ودلالاتها شاعرنا يحمل معجمه اللغوي الخاص مشتغلاً عليه بعناية فائقة..ومع أنه يدرك هيبة الحرف إلا أنه يحوم حوله ويراوغه مراوغة الممسوس بالشعر.. فالشعر لديه هو الحقيقة التي تتبعها كل عناصر اللغة لتركع في محرابها.. هو عاشقٌ نهمٌ للشعرِ أولاً وأخيراً بينما اللغةُ وسيلةٌ للنهوضِ بالشعرِ رغم حبِّه بها لكنها وراءَ الشعرِ وليست أمامَه…
ويتجلى عشقُه هذا بتكرارِ العديدِ من المفردات التي تعبر عن انغراسِ معانيها في لاوعي الشاعر فتأبى إلا أن تشيَ به… فقد تكررت كلمةُ الشعر أو الشاعر اثنتين وعشرين مرة وكلمة قصيدة أو قصائد أو قصيد أربعاً وعشرين مرة وكلمة قافية أو قوافٍ ست عشرة مرة… بينما تكررت كلمة معنى اثنتي عشرة مرة وكلمة حرف إحدى عشرة مرة ومثلها كلمة بوح بينما كلمة اللغة تكررت فقط أربع مرات… وهذا التكرار له دلالة واضحة على اشتغال الشاعر باللغة والشعر معاً مع أفضلية الشعر وتبعية اللغة له كما ذكرنا…
ختاماً يقول الشاعر الألماني راينر ريلكه (جُدْ بجمالك بلا انقطاع، بلا حساب، لا كلام، تصمتُ أنت.. ويقول هو عنك كل شيء) والجمال الذي جاد به الشاعر في سفر الشآم يشي بشاعر يتدفق جمالاً من قاعدة الإيقاع إلى هرم الشعر بفلسفته وعمقه وسطوته…
سمر أحمد تغلبي