على ضفاف العاصي: عندما ينضب الابداع

الابداع منحة ربانية يخص بها الله بعضا من عباده ’ وشرارة الابداع عند المبدعين قد تخبو أحيانا وقد تنطفئ وقد يتراجع الابداع أحيانا رويدا رويدا او قد ينحسر كليَّة.. والسؤال الذي يطرح نفسه اولا هل في هذا التراجع للإبداع علاقة بعمـــر الفنان ؟؟؟ بمعنى انه كلما تقدم الفنان في العمر أصبح غير قادر على مواصلة الابداع ويتدنى مستواه .؟.. أنا لا اعتقد ذلك بمعنى انه كان هناك من حصد جائزة نوبل للآداب ولمجالات أخرى واعمارهم فاقت الثمانين عاما , واذا كان الابداع ينضب عند البعض بتقدم العمر فلماذا لا يتوقف الفنان عند هذا الحد حتى لا يسئ لماضيه ؟؟ في وقت يصرفيه لا حقا على تقديم أعمال لا تشبه مستواه المعروف عنه ؟؟ أسئلة دارات بخاطري وأنا أشهد بكل اسف تراجع مستوى الكثير من المبدعين في بعض من انشطة ثقافية وفنية ودعكم من المجاملات وصور التواصل الاجتماعي ومنها كانت نماذج مؤسفة لمثقفين ولفنانين تربعوا على عرش الابداع تشهد لهم سيرتهم الذاتية وفي مختلف ضروب الفــن بل وأصبحوا رموزا فيه وبعد أن وصلوا هذه المرحلة تفاجأنا بهم بأنهم أصبحوا يقدمون أعمالا لا تشبه ما هو معروف عنهم .. وكي لا يستاء مني احد اضرب لكم امثلة من واقع الفن لا من الادب والشعر اذكر في خمسينات القرن الماضي على سبيل المثال الممثل الكوميدي اسماعيل ياسين وكان قد تربع على عرش الكوميديا العربية في أواسط القرن الماضي ، كم كنا نتابع أفلامه السينمائية ونغشى من الضحك فيها , لكنه في أواخر عمره وبعد ان تكرر تهريجه في كل لقطاته من حركاته الى منظره في فمه يشطه ويمطه وما من جديد غير ذلك فقد آلت حالته امام المشاهدين كنكته بايخة ترددت امام الأسماع لمئات المرات ففقدت بهجتها , بل وحتى صار المسكين في أواخر عمره يقف على المسارح الشعبية ليكسب قوته في اضحاك الناس لكن الناس كانت وللأسف قد ملَّته فصارت ترميه بالمهملات لتنزله من خشبة المسرح كما نزل من عرش نجوميته … وأقول ان الفنان الحقيقي .. لا يبلى .. لكنه قد يتعرض لعواصف الزمن .. وتقلب تياراته المتغيرة ..واهمها عامل تقدم العمر فمثلا خذ صورة المطربة الراحلة صباح وهي في عز شبابها عن صورتها وهي كهلة فقد صارت مثارا للتندر في عمليات التجميل بين شد جلد الوجه وارخائه , فالفنان عندما يصل لمرحلة مثل هذه وجب عليه حتما الاعتزال .. اللهم الا إذا كان يهتم لرصيده الفني .. ومكانته عند الجمهور.. أما إذا كان الاهتمام هو المال فالسلام على الموهبة .. والمكانة الفنية !!! ان المبدع هو الشخص الذي يتفاعل مع مَن حوله في الأفراح وفي الأحزان ولا يمكن أن يتوقف الا لظروف قاهرة منها وأهمها تقدم السن او انشغاله بين الداء والدواء او لأسباب كثيرة أخرى لكنها تكون قاهرة حتما . ذات مرة صعد الشاعر والسياسي السوداني الأستاذ عبد الباسط سبدرات إلى منصة الاحتفال ليلقي قصيدة شعرية وبعد تقاعده ان كان وزيرا ولكن فاجأ الحضور بقوله: «الحنة في المرأة الكبيرة ما بتشيل» أي لا تثبت مشيرًا بذلك إلى أن للأبداع زمانًا ومكانًا، حيث أشار إلى إمكانية توقف المبدع عن العطاء وتقديم منتجا جديدا مفندًا ذلك بعوامل كثيرة منها تقدم العمر والمرض .. وبعكس ذلك فإن هنالك من يخالف سبدرات القول إن الإبداع لا يمكن أن يتوقف أو يشيخ وإن ظهرت على ملامحه الفتور وذلك لأن الإبداع عبارة عن طاقة تخرج لتعبر عن حالة المبدع ومع ذلك هناك موانع قاهرة تشله عن العطاء وخارجة عن إرادة المبدع . ذات مرة لجأت أم كلثوم إلى القضاء لمقاضاة الملحن الفنان محمد الموجي حول تأخيره في انجاز لحن اغنية “للصبر حدود ” التي كتبها عبد الوهاب محمد ، ذلك أن انجاز اللحن قد تأخر كثيراً.فامتثل الموجي للأمر ووقف أمام القضاء بالفعل، ليخبر القاضي أنه إن كان هناك متهم يجب أن يمثل أمام القضاء فهو الوحي.وطلب الموجي من القاضي أن يحاكم الوحي الذي تأخر، وأنه فور وصول الوحي سيقوم بتلحين الأغنية وتقديمها إلى أم كلثوم. فلماذا لا نعترف ان المبدع قد ينضب أحيانا من ابداعه شعرا او ادبا او حتى فنا فالواجب عليه هنا ان يتوقف هنا اذا عرف تأكد ان لا جديد عنه وذلك مراعاة له حتى لا تهتز صورته في اذهان معجبيه التي صنعها وهو في زمن سطوع نجمه ؟ وقد افشت ام كلثوم سرا آخر أيضا لما سئلت عن أسباب عزوفها عن الملحن رياض القصبجي بعد و فاته ؟ فردت : لأنه صار يكرر نفسه في الحانه وما من جديد عنده فقد نضب عطاؤه لكنها للعشرة الحلوة والزمالة احتفظت له بالمودة والتقدير والاحترام .. فيا أيها المبدعون أصحاب التاريخ الذهبي في ابداعكم وقد مضى العمر ونضب بئر الابداع لا تكرروا أنفسكم في الصعود على المنابر في قصائد ومحاضرات قد تكرر القاؤها مرات ومرات منكم أوفي مقالاتكم في الصحف وقد اعيد نشرها في فترات متباينة في التواريخ والتلاعب في تغيير العناوين فذاكرة الناس ليست مثقوبة , ..افسحوا الطريق لغيركم من الأقلام الواعدة خاصة وقد نلتم حظكم من ابداعكم سابقا من وقوف على المنابر او تكريم عبر الحياة ولتعلموا ان السفح يتسع للجميع . وإليكم سادتي أيها المبدعون أوجه أسمى آيات الود ودمتم ودام إبداعكم و ألقكم .
محمد مخلص حمشو
المزيد...
آخر الأخبار