خرجت من ذاك الباب الكبير .. ولم تلتفت وراءها
كانت في قمة السعادة .. حملت حقيبتها ومشت .. مشت كثيراً ..
وقفت أمام النهر .. تمعنت بمياهه المتدفقة .. إنه لن يغير مجراه .. ولن تتغير صفوة مياهه .
مدت يدها لشجرة الكينا العطرة .. إنها مازالت خضراء وتقدم للناس الفائدة.
رددت بينها وبين نفسها :
ــ الزمن هو .. هو .. في تجدد دائم لن يتوقف ..
وصلت الحديقة ، منذ زمن لم تر كل هذه المشاهد الجميلة . لقد اشتاقت لبلدها … وضعت حقيبتها إلى جانبها ، واستلقت على العشب الأخضر .
نظرت إلى السماء .. إنها زرقاء كالفيروز .. غنت .. ضحكت .. صاحت بأعلى صوتها !
ــ ماأجملك أيتها الحرية .. ! أنا اليوم حرة .. منذ زمنٍ لم أر ما أراه اليوم .
النهر .. والشجر .. والشمس الساطعة .. والناس يسيرون في الشارع كل إلى عمله .. ما هذا النقاء..!!
– أنا لأنسَ تلك الليلة القاتمة عندما كنت مع صديقي الذي أحببته وكنت أرى سعادتي معه ، وتوهمت إنه يحبني .. كنت أقول لمن ينصحني بالإبتعاد عنه : لا ..! هو يحبني ولن يتخلى عني .. نسيت بعلاقتي معه دراستي ، وما أصبوا إليه في المستقبل من علم ومعرفة .
قالوا لي زملائي في الجامعة :
ــ ابتعدي عنه . هو يتعاطى المخدرات .. هو غير طبيعي ..
لم أصدق أحداً .. كنت أرى من خلاله سعادتي ..
والدي نصحني وقال لي :
ــ إن مستقبلك وإتمام دراستك أهم من هذا .. هذا الطريق الذي تسلكيه يسيء لك .. ابتعدي عنه وعن غيره .. وإلا سوف أغضب منك ولن أسامحك ..
أخفيت علاقتي معه في طي صدري و أوهمت والدي و أهلي أنني إبتعدت عنه .. أيامٌ و أسابيع ٌ و شهور و علاقتي به تتعمق . إلى إن كان ذلك اليوم المشؤوم يوم
. . يوم ألقي القبض علي وعلى صديقي وبعض الأصدقاء الآخرين . تباً لتلك اللحظة ! كم كانت مخجلة ! تمنيت لو لم أكن على قيد الحياة .. فالموت أهون عليّ من ذلك . كيف أواجه والدي .. وأمي .. وأهلي .. ؟ !
عندما أتى والدي ليراني إقترب مني وقال :
ــ انا لم أتوقع ذلك منك .. ولا أن أقف أمامك في هذا المكان .. لن أراك بعد اليوم .. سوف أنسى حتى اسمك ..
مسح بيده دمعة حزن وأسى .. كانت قد سقطت على خده ومشى ..ولم أراه أبداً .
إن خسارتي لوالدي خسارة عمري كله . لأنني كنت وحيدته ، وكان يأمل أن يراني في أعلى المراتب .
صدر الحكم بحقي بالسجن ( عاماً كاملاً ) وهذا الحكم كان كالصاعقة . عاماً بعيدة عن أهلي .. وأقربائي .. و.. و ..
تطلعت حولي أين أنا .. ! أنا وضعت نفسي في هذا المكان , إنه ليس مكاني أين الجامعة .. أساتذتي .. زملائي .. محاضراتي ..؟.!
كم كنت عنيدة ، لم أستمع لنصيحة أحد .
والآن..أنا حرة.أنا سأعود للحياة من جديد ، بعد أن تلقيت درساً قاسياً لا أنساه.
إقتربت من زهرة بيضاء قطفتها وهمست لوريقاتها قائلة : ً
ــ سأعود نقيةً مثلك أيتها الزهرة .. سأعود .. سأعود ..
والدي أين أنت .. عاماً كاملاً لا أراك ولا أسمع صوتك ..
لقد علمت أن والدتي توفيت ، إن الذي جرى معي فوق احتمالها .. لكن أنت يا أبي أين اجدك ..؟
شعرت بحرارة الشمس تزداد .. قالت :
ــ كم مرّ من الوقت ، وأنا جالسة أقلب صفحات سوداء مرت من عمري ..
أنا سوف أطويها وأحرقها .. ولن أذكرها أبداً . لقد فقدت الثقة بأي صديق يقف في طريقي .
اخرجت من حقيبتها هاتفها ( الجوال ) وبصوت تخالطه الفرحة والشوق والخجل قالت له :
والدي .. أنا ( رولى ) ابنتك . أنا لؤلؤتك . أتذكر عندما كنت تناديني ( لؤلؤتي ( .. أنا حرة اليوم لقد خرجت من السجن و طويت موجة الماضي و حطمتها على صخرة صماء أين أجدك.؟ .. كيف إبتسامتك الخضراء المفعمة حناناً و عطفاً .. أحب أن ألقاك و أعلق ساعدي بساعدك كما كنا ..و أنا بمنتهى السعادة و بظل حنان أبوي دافئ أمشي في الشارع و تشتري لي كل ما أشتهي أتمنى أن أراك ..
ــ أجابها .. تعالي .. أنا هنا في منزلنا .
وتساءلت وهي تسير لوالدها .
ــ حقاً أنا لن أنسى ما جرى معي طيلة عمري .. كانت فترة مراهقة عمياء مجنونة . رمتني تلك الرمية المشؤومة .
وصلت المنزل . . عاماً كاملاً لم تر منزلها ولم تقف على الباب . وكأنه مئة عام . لقد عانت الكثير من الذل و الهوان .
– طرقت الباب وهي تحدث نفسها :
– كيف يستقبلني والدي .. ؟ هل يضربني .. أو هل يهم بقتلي .. ! ! .
إن خطيئتي كبرى .. فوق إحتماله .
فتح الباب ونظر إليها ثم أدار ظهره ومشى .. دخلت وهي ترتجف هلعاً وخوفاً .. وقالت :
ــ ماذا بعد .. ؟ !
جلس على مقعده وأشعل سيجارة ثم نظر إليها وقال :
لن أقول لك شيئاً لعله كان درساً قاسياً،لقد نلت حقك من العقاب وهذا يكفي..
وبالرغم من إن مدينتي هذه عزيزة عليّ لأنها بلدي . إنها مدينة آبائي وأجدادي . قررت أن نسافر معاً خارج هذه المدينة لمدينة لا يعرفني فيها أحد وذلك أفضل لي ولك .
– قالت له أبي سأبدأ من جديد ! . .
رامية الملوحي