قراءة في أنثى الهزيع الأخير للشاعر عبد الجبار طبل

يقترح الشاعر عبد الجبار طُبل ترتيباً شعرياً لصور خياليّة من مفردات حسيّة مصدرها الطبيعة أو الذاكرة، فالخيال لديه نشاط يحقق انسجامه بين ذاته وموضوعه، بين القريب والبعيد، كما يُخيّل للقارئ بأن كلماته ترسم لوحة في وجه قمر بعيد، هذا الوجه أنثى الهزيع الأخير.
تبدأ القصيدة بإشراقات الحب والجمال، يقدّسها الشاعر في كل أنثى تضمّ في عينيها عناصر الطبيعة الحسيّة والمعاني الكامنة وراءها وآلهة الحب، كما في قصيدة “أنغام للحب” الدالّة على شعورٍ بالحنين والاشتياق الملامس لشغاف القلب. كذلك رؤية الشاعر نحو الأفق والجمال وما تكنزه الطبيعة بفصولها من سحر وحبّ وعطاء نثر مفرداته الغنية المستوحاة من حيويتها وسرمدية الوجود، يقول:
“ولي في رياض الهوى 
دفق وجد
لأنثى تدلّت
على سدرة الحسن..
ثم ارتدت سحرها..
في رحاب الوجود 
ومالت
على هاجس القلب..
تسكب أطيابها
والوعود
فينهدّ عطر المساء
بحضن الورود
ويعزف ناي
وتشرق روح
إلى الحب..
تمضي الخطا..
من جديد
فتزهو الحياة
ويحلو النشيد”
تبدو “الملامح” الجماليّة واضحة في التعبير والتصوير والإيحاءات والإشارات وصدق النفس وحلاوة الكلمة ومعناها ورمزيّة تأثيرها في نفس المتلقي، يقول: 
“هو العشق
أم جنة..
في مدار بتول
يعانق قلبي الجمال
طويلاً
وروحي الذهول
وفي هدأة الليل..
تأتين أنثى الهزيع الأخير
هواك
ووشوشة الزيزفون
هواك
وأعراس فجر تجلّى
فكان الحنين
لعينيك كان
على عشب صدري
تعرّش أسراره… والفصول
يعانق في رجعه…
يانعات الرؤى
كما الصبح
تورق فردوسه…
من مقام الغرام…
النبيل”
نلاحظ في نص قصيدة “قطاف” امتداداً حياً للشاعر فمن خلال ألفاظه نرى تعابيره مؤرخة حيث الرؤية العميقة والمشاعر تتناغم مع نفحة من جميل تواصله بأطيب وأسمى المعاني تشكّل خارطة شكل البستان ففي لفظة “قطاف” تعبير لا يخلو من الشفافية والحب الرومانسي نذكر بعضاً من التعابير “روض، شهد الرضاب، الزنابق، الشقائق ،الخزام” ثم يعيد اللفظة “قطفت” ليكررها، وهو الفعل المعبّر عن الرغبة المشتهاة حلماً، ووسيلة لإعادة رسم الحلم، في الآن ذاته يجعل من نفسه أيقونة معبرة عن ذات عليا تريد وتفعل ما تريد في الحلم الشعري، يقول فيها:
“وأطلتُ
تنميق الكلام 
عطرتُ
روض شبابها بأزاهري
وقطفتُ من فمها…
الزنابق…
والشقائق…
والخزام…”
اللغة كما يقال وعاء النفس عقلاً وانفعالاً وفناً وإبداعاً، وأساليب وجمل وتراكيب وألفاظ مفردة.
نرى أساليبه متنوعة فمنها التشبيه والنفي والإخبار نذكر قطعة منها في قصيدته “بين قافيتين
لم يبقَ ..
من تلك الأماني الغاربات…
سوى الظلال 
ها أنتَ…
في ظلّ الشموس
مسافر
لتعانق الحلم المحال…
وتقطف النخل المحال…
وتعزف اللحن المحال”
نشاهد لصوت الشاعر في قصيدته “حوار مع الذات” صدىً أراد من خلاله أن يعيد صداه ببريق من الآمال لتهدأ نفسه من كل جرح أصابه، فراح يسقي أحلامه بورود وأمنيات نبيلة بهيّة نديّة ليستقبل عرس الحياة بيوم جميل، نقطع منها حيث يقول:
“ويصحو الصباح
على وجنتيك
فتزهو الرؤى الفاتنات
فتنشى بذلك
وبين جفون النسيم المُعنّى 
يميسُ الأريج
يُتمُّ عبير الورود
فصوله
سقاها النّدى أمنيات نبيلة
فعاجل 
مداراتك المستحيلة
وهبْ نجمتين
لطفلة روحك… والحلم…
كي يصنع اليوم…
عرس الحياة
فتغدو الجميلة”
لا شكّ بأن التعبير بالصورة ميل عن مباشرة المعاني وتقريب للمعاني المجردة بثوب محسوس وتقوية لاجتهاد العقل في تخيّل المراد من الكلام الإبداعيّ، جاء التعبير بالصورة في صور عدة في قصيدة “معزوفة الألق” هي: “هنا وجهي، جذوري، هامتي، أوتار قافيتي، راية الغرق، الصبر بحراً، خدها الشرقي” الصور فيها أنواع متعددة، فمنها التكرار لفظاً ومعنى “هنا وجهي”
وصور تكررت في المعنى “جذوري ، هامتي، وطني، دفء اللهفة، سحر المرأة ، تضم ُّ، أشتمُّ” جاءت في سياق الخبر الصريح وصوت ظاهره الإيمان بالتنويه والفرح والسلام.
وظّف الشاعر ظاهرة التكرار كصورة فنية جمالية تدخل ضمن عناصر بناء الصورة والمعنى في النص الشعري كما تخلق إيقاعاً يلائم جوّه النفسي، نرى في نصه دلالة الإحساس بالحركة وهي حركة الحالة النفسيّة التي يمر بها الشاعر، بدأها بحركة التكرار والاستمرار نجد ذلك في الأفعال التي طرأت في نصه الشعري “نفحات”: “أسير، أناور، أراوح، أبدو” هذه الأفعال المضارعة دلّت على مشاعر وانفعالات الشاعر ولكن سرعان ما ظهر لنا عنصر المفاجأة في نهاية النص يقول فيها:
“أسير 
على وقع عصر أنيق
أسير 
بفكر طليق
أناور أيامي الهاربات
لشطِّ …
أراوح في خطوي…
المستمر بذاك المسير
وأبدو طليقاً

ولكن 
بسجن كبير كبير…!”
يتجسد التكرار في مقطع شعري من قصيدة “مواويل” من خلال عبارة “لابدّ من لجم الألم” يبدو هنا الشاعر منفعلاً بما يدور في نفسه من صراع داخلي عميق يحاول أن يواريه بفعل هذه العبارة المكرورة للتأكيد على ما يعانيه من ألم وحزن، يقول:
“انطفاء
لا بدّ
من لجم الألم
يمضي إليك الموت
يلتصق الغمام 
بعتمك الممتدِّ
من ليل انطفائك
في تراتيل الخريف
إلى العدم 
لا بدّ
من لجم الألم 
لا بدّ
من لجم الألم”
يشار أن هذا الكتاب هو الثالث للشاعر عبد الجبار طبل، المولود في حماة عام 1971، صدر له ديوانان شعريان هما “في الروح متسع لموسم جلنار” و”أنت وأنا” عن اتحاد الكتاب العرب دمشق.

رزان القرواني

المزيد...
آخر الأخبار