جولةٌ سريعةٌ في ثنايا خواطر الأديب: غالب المير غالب

 

 

الاديب غالب المير غالب أديبٌ يمتاز برهافة أحاسيسه ورقتها، فهو لا يطيق المآسي التي تُحدق ببلادنا الحبيبة في هذه الآونة. وتتجلّى رهافة أحاسيسه في خاطرتين خطّهما من وحي النّكبات التي نعيشها في هذا الزمن العصيب الذي لم تشهده البشرية على امتداد التاريخ الإنساني.
ينظر الأديب غالب في مشاهد معاناة الأطفال المأساوية، فتقضُّ مضجعه، فيمتشق قلمه، فتمدّه روحه بدم ينزف منها تأسّياً لِمَا تَشهد من حولها، فيرسم لوحةً جدّ قاتمة:
(في ليالي البرد والزمهرير أطفالٌ يفترشون الأرض، وينامون فوق الصقيع، تاهوا في مجاهل الحضارة، وسراديب العدالة المزركشة، طحنتهم أفعالُ الكبار، وسحقتْ مستقبلَهم شعاراتُ الرَّخاء والنعيم، جريمة هؤلاء الأطفال أنَّهم وُلدوا في الزمن الخطأ، في غابةٍ احترقت أشجارها، وهاجتْ حيواناتها قتلاً!!).
يُشير النظر الفاحص إلى أنَّ البراءة، ممثَّلة بالأطفال المساكين، تُسحق وتُطحن جسدياً ونفسياً؛ إذ لا مستقبل لهم إلا الشَّقاء والضَّياع؛ فنفوس الجبابرة تَفتقرُ إلى أيّة ذرة من الرَّحمة والشَّفقة الإنسانيتين. لهذا نجد أديبنا يوظّف مفردات في غاية الفظاعة والشناعة القبيحتين:( طحنتهم، سحقت، وهاجت). ولعمري أنَّ الجرائم التي تنجم عن (أفعال الكبار) أشدّ ضراوة وجسامة من (الزّمهرير والصّقيع) اللَّذين يُؤلمان ولا يقتلان.
يضيقُ أديبنا غالب ذرعاً بما آلت إليه الأمور، فيؤكّد أنَّ السّيل قد بلغ الزُّبى، وأنَّ ساعة الرحيل قد حانت؛ لأنه لا يطيق ما حلَّ ببلادنا من أهوال وشدائد.
(راحلٌ غداً إلى بلاد الرّيح..
سأغادرُ مدينتي المُهمَلة..)
توحي صورة (بلاد الريح) بالعواصف الهوجاء التي لا تستوي في هبوبها؛ إلَّا أنَّ أضرارَها أقلُّ بكثير مما عاثت به أيدي البطش من شرور وجرائم يَندى لها جبينُ البشرية خجلاً. فبلاده التي نشأ في أحضانها وترعرع غَدتْ خاويةً على عروشها؛ و(أحلامها المزركشة) قد اضمحلت، وأنوارها قد خَبَتْ:
(لن أتذكَرها ولن أتذكَر أحلامها المزركشة!!
لن أتذكّر مدينةً غابَ فيها النُّورُ!!)
بَيْدَ أنَّ الطَّامَّة الكبرى تَبتدِئ حين يرى اجتثاث مكونات جماليات ربيعها السّاحر، فيبكي ( زيتونَها المقهور.. وأشجارها القديمة التي أكلَ جذعها منشارٌ مجنونٌ!!) ويزمع على نسيان آلاء طبيعتها الفاتنة، فيقول:
(سأنسى زهور ربيعها، ونسيم ليالي صيفها اللّطيفة!!
سأنسى رائحة زهر الأكاسيا، والياسمين في شوارعها!!)
ويُصمّم على نسيان طفولته في أحضان جدّته وأمّه الرؤومين:
(سأنسى حكايات جدّتي، وطعام أمّي اللّذيذ!!
وأنا في غربتي سأتذكّر أنَّني عشت في روابيها حزين!!
عشت وعلى رقبتي ألفُ سكين!!
عشت فيها بالقهر والتَّعتير!!)
توحي حكايات جدَّته بماضيه في كنف جدته بتقليدٍ شعبيٍّ أَثيرٍ في ذاكرتنا التُّراثية فالجدَّة تبدو بمنزلة القاصَّة التي تسرد حكايات بطولات رجالنا الصَّناديد في عصور الإباء والمجد من تاريخنا المشرِّف. ومن نافلة القول هنا إنَّ تلك الحكايات الجميلة كانت تنطوي على مغازٍ أخلاقية ومواعظ تربوية تهدف إلى بناء جيل سليم يتسلّح بالقيم المُثلى والسّلوك النّبيل. ومن الجدير بالذّكر هنا أن أديبنا غالب لا يستطيع نسيان ماضيه في بلاده التي رأى نورها منذ ولادته، ونهل من مائها واقتاتَ من خيراتها، رغم (القهر والتَّعتير) اللّذين عانى منهما أيما معاناة، فهيهات أن ينسى مدينته التي تسكن روحه التي لا تنفكُّ تحنُّ إليها:
مدينتي لا أستطيع كرهك!!
أنت في دمي، تجرين!!
أنت مع نَفسي، وفي صدري تسجدين!!
أنت مع روحي القلقة، تتراقصين!!
تبتدئ شاعرية أديبنا في لجوئه إلى تقنية السّجع التي تتمثّل في رصف حَرفَي الياء والنون في الأفعال (تجرين.. تسجدين.. تتراقصين)، وما من ريب أن هذه الأفعال تكشف تماهي روحه ومدينته. ويتجلَّى هذا التَّماهي في أوجه حين يقول والبهجة تغمر فؤاده:
أنا وأنت صنوان في غياهب الوقت نسير!!
وعلى أدراج المحبّة ندور وندور مثل نحلة حول زهرة..
مثل فنان تائه سِكِّير..
أجل إنَّه تماهٍ لا نظير له، فهما لا يفترقان البتّة، ويدوران (على أدراج المحبّة) على الدّوام. في ضوء هذه الصورة البديعة نجد أن أديبنا قد تخلّى عن الكآبة التي خيَّمت على أجواء هذه الخاطرة الوجدانية، ويتشبث بروحه النبيلة المجبولة على قيم المحبة والخير، وخير دليل على هذه الفكرة يتمثّل في دوران روحه ومدينته (على أدراج المحبة) وترتسم روح أديبنا الخيّرة حين يبدع صورة النّحلة التي تطوف من زهرة إلى زهرة لتصنع عسلاً فيه غذاءٌ وشفاءٌ لبني البشر.

فالأديب مثل النّحل المعطاء الّذي يصنع الخير دون توقع أي مقابل، إنه يرى في الكلمة رسول المحبة والسلام، فهي تهدي المتلقّين إلى جادة المُثل الإنسانية الفاضلة؛ فهذه رسالة الأدب السّامية التي تصدرت مضمونات الأدب والفكر على مرّ العصور، وهذه هي الرّسالة النبيلة التي من شأنها إعادة الحياة الإنسانية إلى ألقها ورونقها، كما أكّد الأدباء الإغريقيون والرومان الكلاسيكيون ومن بعدهم شكسبير وغيرهم من قامات أدبية أخرى.
د. الياس خلف

المزيد...
آخر الأخبار