أ. د. الياس خلف
بادئ ذي بدء، أود التأكيد أن لعنوان هذه الدراسات الأدبية العميقة أهميته السيميائية؛ فكلمة (سماء) توحي بالعالمية، لأن السماء لا حدود جغرافية تفصل بينها، وهذا يدل على أن الشاعر الناقد محمد عدنان قيطاز يقتطف من كل سماء أو بلد (غيمة حب). ولا ريب في أن مفردة (غيمة) لها دلالاتها السيميائية؛ فالغيمة توحي بالمطر، والمطر هو الخير والعطاء، ولولاه لما استمرت الحياة على وجه المعمورة. وكم جميل أن نجد أن تلك الغيمة ما هي إلا غيمة حب ووئام وسلام. إذن فشاعرنا الكبير ينتقي مقطوعات أدبية تنطوي على فضيلة الحب السامي الصرف، الذي من شأنه إعادة البشرية إلى عالمها الذهبي في الأساطير الإغريقية والرومانية التليدة حين نعم بنو البشر بحياة هانئة تقوم على التوادد ونبذ العداء؛ فعم السلام والخير ورضي عنهم آلهتهم في هاتيك الأيام السعيدة.
تترسخ مرامي شاعرنا قيطاز التوجيهية حين نقرأ على غلاف هذا السفر النقدي أبياتاً تنطوي على شرح مفصل لمضمونات هذا الكتاب وأهدافه المتوخاة، وهنا لا بد من التأكيد أن غلاف الكتاب يندرج ضمن النصوص الموازية التي تحدث عنها الناقد الفرنسي الكبير جيرار جينيت في كتابه الشهير: (النصوص الموازية)، وهي على نحو مجمل تعين القارئ على تلقي النص على النحو الأمثل.
من كل سماء غيمة حب تهدى للصحب والأحبابْ
يا صاح ألا فاقرأ كلماتي كلمات جاءت عبر كتـابْ
وتأمل ماضينـا واعجـبْ أبداً أبداً حسبي الإعجـابْ
تشير دعوة الشاعر الناقد قيطاز إلى تأمل (ماضينا) إلى أنه يدعونا إلى النظر في ماضي الإنسانية المشرف الناصع، فكلمة (سماء)، كما رأينا آنفاً، تدل على سماء الطبيعة التي لا تعرف الحدود الجغرافية.
تتجلى أولى غيوم الحب في صورة الملك كليب التغلبي الذي يبدو مثال القائد البطل؛ فهو حامي الحمى والعشيرة، والأب الذي يرعى أبناءه، كما يبكيه أخوه الزير سالم، أبو ليلى المهلهل، ويرثيه (بدموع مستمرة وقلب مكلوم قرصه الأسى وأذبله العويل):
أكليب إن النـار بعدك أخمدت ونسيت بعدك طيبـات المجلــــس
أكليب من يحمي العشيرة كلها أو من يكر على الخميس الأشوس
من للأرامل واليتامى والحمى والسـيف والرمح الدقيق الأملــس (ص 15)
إن الفقيد الملك كليب جدير بهذه المرثاة الممجدة لصنائعه النبيلة؛ فهو القائد الاستثناء الذي لا يشغله شاغل سوى واجبه تجاه بلاده ورعيته، وهذا هاجسه الذي يحثه على الاضطلاع بمسؤولياته العامة، فهو لوطنه وبني وطنه الأعزاء.
ومن نافلة القول هنا إننا لا نقدر على رصد غيمات الحب جميعها في هذه العجالة لأن هذا التتبع يتطلب صفحات عديدة؛ لذا آثرنا أن نتخيّر بعض المحطات الأدبية ذات الطابع الإنساني المحض. يصطفي شاعرنا الناقد محمد عدنان قيطاز الشاعر واروجان، صاحب (أنشودة الخبز) من الأدب الأرمني. يقول شاعرنا قيطاز في معرض دراسته للشاعر واروجان:
نظم واروجان الشعر وهو طالب على مقعد الدراسة، وتأثر في رحلته إلى إيطاليا وغيرها من دول أوربا بكبار الكتاب والشعراء القدماء والمعاصرين أمثال جان جاك روسو وفيكتور هيجو وشيكسبير وتولستوي… إلى جانب عدد من أدباء الأرمن. (ص 96)
ههنا تتبدى فطرية موهبة واروجان لأنها جبلية تلقائية، عززتها اطلاعاته على رؤى أولئك الأدباء الإنسانيي النزاعات والمضمونات الذين سطروا ملاحم تخطت الحدود الجغرافية والزمنية والإثنية. يمضي شاعرنا الناقد في ترجمته لواروجان فيضيف قائلاً:
بدأ رحلة الإبداع في عالم جديد. وكانت قصائده تحظى باهتمام معاصريه لأنه كان ابن بيئته يشعر بشعور الآخرين ويتحسس آلامهم ويغني طموحاتهم وتطلعاتهم.
وللشاعر الفرنسي لامرتين نصيبه في هذه الدراسات الأدبية، إذ يعنون شاعرنا الناقد قيطاز دراسة بـ: صفحة مطوية من حياة لامرتين السياسية؛ شاعر من فرنسا. (ص 117)
يعرض شاعرنا الناقد قيطاز مسيرة لامرتين السياسية، التي تجلت في كتابه (تاريخ الجيرونديين) الذين كانوا يؤمنون بالحرية الشخصية… ويحلمون برؤية فرنسا وقد استقر بها الحال إلى حياة باهرة خالية من الشوائب. تسير وفق دستور جمهوري، ونددوا بالمجازر الوحشية التي خيمت على فرنسا في عهد الإرهاب ويخلص شاعرنا قيطاز إلى رؤيته للامرتين شاعراً وسياسياً فيقول:
وإذا كان لامرتين الشاعر يستمد مصادر وحيه من نوازع القلب وجمال الطبيعة وحماسة الإيمان، فإن لامرتين السياسي يعتمد في نضاله على إيمانه بمبادئ الديمقراطية والعدالة الاجتماعية والسلام العالمي. (ص 121-122)
يشير النظر الفاحص إلى أن نضال لامرتين في سبيل الديمقراطية والعدالة الاجتماعية والسلام العالمي ماهو إلا لبنة الأساس في مشروع الأدباء الذي يرمي إلى إرساء عالم الإنسانية المثالي القائم على أسس الخير والحق والسلام.
هذا هو هدف شاعرنا الناقد قيطاز الأدبي في كتابه هذا، إنه انتصار (للحق والفضيلة) (ص 7)؛ وهذه هي رسالة الأدب الجليلة، إنها التزام المثل الفاضلة: الخير والعدا
لة والسلام، فهذه المثل تضمن سيادة الإنسانية ودحرها للوحشية والأثرة اللتين تقضان مضجع بني البشر. وتحية لشاعرنا الناقد محمد عدنان قيطاز الذي أدلى بدلوه في موضوع مسيرة الأدب السياسي نحو حياة هانئة تقوم على القيم المثالية.