فجائعية زلزال سورية العنيف


  دراسة في خاطرتين للأديب غالب المير غالب..                      
    استيقظ أبناء قطرنا الحبيب فجر يوم الإثنين الواقع في السادس من شهر شباط الجاري على وقع زلزال عنيف بلغت قوته 7.9 درجة وفق مقياس “ريختر”. وكانت آثاره كارثية؛ فبالإضافة إلى العدد الكبير من الضحايا، زادت حدة الهلع في نفوس أبناء بلادنا الحبيبة. وهبَّ الكتّاب يَبكون هذا المصاب الجلل الذي حلَّ ببلادنا وبأهلينا. بيد أنني في هذه العجالة، سألقي الأضواء النقدية على بضع خواطر خَطَّها أديبنا الكبير غالب المير غالب بدمه الذي استحال حبراً ليراع المبدع “ما زالَ الموتُ ينشبُ مخالبَهُ في بلادي.. يَعزفُ سمفونيتَهُ العاشرةَ.. ضجيجُ موسيقاه قَتَلَ الأطفالَ.. وامتزجَ الدَّمُ بالدَّمِ.. تعانقتِ المباني مع المقابرِ.. سُدَّتِ الشَّوارعُ بجدرانِ وأسقفِ البيوتِ.. الورودُ والزهورُ غطى وجهُهَا غبارَ الإهمالِ.. ضفائرُ الصبايا تحتَ الرُّكامِ عشَّشَ فيها الرُّعبُ والضَّياعُ.. هديرُ ودويُّ الزلزالِ اخترقَ السَّماءَ الغافيةَ.. والموتُ يصطادُ النفوسَ بهمجيةٍ ويسخرُ منَ الجميعِ!!”.
    يتأسى أديبنا مرهف الأحاسيس للنكبة التي حلَّتْ بأبناء شعبنا، فيصوِّرُ الموتَ الزؤامَ بوحشٍ يغرز مخالبه الفتَّاكة ببلادنا، على وقع سيمفونية موسيقاه تُقتَلُ الأطفالُ، وهذه إشارة إلى سيمفونية بيتهوفن العاشرة التي لم تكتمل.
   وتبدأ لوحة الهلع تكتمل حين يرسم تداعي الجدران وأسقف المنازل المنهارة، لكن المأساة ترتسم خيوطها المفجعة حين يرصد حجم الفجيعة التي لا تعرف الهوادة والسلام.
  “فَضفائرُ الصَّبايا تحتَ الركامِ عشَّشَ فيها الرعبُ والضياعُ”
   أجل، فالذعر الذي أثاره الزلزال، والرُّكام الذي خلفه، قَتَلَ الصبايا في ريعان صباهُنَّ، وحرمَهُنَّ من متعة الحياة، فالزلزال المدمِّر ثارتْ ثائرته فَجُنّ جنونه واخترقَ دويُّه عبابَ السَّماءِ الغافيةِ.
  ويمضي الموت في تمثيل هذه التراجيديا الإنسانية، فيبدو بمنزلة الصَّياد الذي “يصطاد النفوس بهمجيةٍ ويسخرُ من الجميع” فقوَّته فوق طاقة البشر. وهنا تكمن الطَّاقة العظمى.
  إذاً، تنطوي هذه الخاطرة المحزنة على مشهدية الموت والهلع اللذين ألَمَّا بأبناء بلدنا المساكين، بيد أن أديبنا سرعان ما يصحو، ويستعيد تفاؤله، فَيُسَطِّر خاطرة أخرى بعنوان “هذيان مقهور”. لا ريب في أن عنونة هذه الخاطرة تؤدي وظيفتها على نحو فعَّال؛ فالهذيان، لغة، اضطراب ذهني مؤقت يدل على الهاذي لهول ما يدور حوله من مآسٍ لا يستطيع العقل استيعابها أو تجاوزها، وكلمة “مقهور” تشير إلى أن أديبنا لا يستطيع مجابهة الزلزال المميت، لكنه ينفض عنه إسار التفجُّع ويحلِّق بروحه الرومانسية، فتمدُّه بصورة العنقاء التي تنهض بعد الموت..
“أطفالُ سوريةَ عنقاءُ، والعنقاءُ لا تموتُ، تخمدُ أنفاسُها قليلاً ثُمَّ تنتفضُ من تحتِ الرَّمادِ لتنطلقَ إلى السَّماءِ فتملؤُها عصافيرُ وأريجُ وورودُ. أطفالُنا تحتَ ركامِ الحروبِ والأمراضِ، والفقرِ والأعاصيرِ والزلازلِ يستريحونَ. أطفالُنا عنقاءُ والعنقاءُ أبداً لا تموتُ!! يموتُ الشَّرُّ، يموتُ الظُّلمُ، وأطفالُنا لا تموتُ!!”
  بديعةٌ هذه الصورة التراثية التي تؤكِّد انتصار الأمل على الموت، فالعنقاء تُوقِدُ في نفوسنا بصيصَ التفاؤل وعودة الحياة إلى سابق عهدها. إنها مشهدية عودة الربيع ومكونات جمالياته الطبيعية: العصافير الشادية والورود الفواحة. وبفضل ريشته المبدعة يغدو أطفالنا عنقاءات ترمز إلى الانتصار على الموت الذي سبَّبَهُ هذا الزلزال المُدمِّر.
  وصفوة القول: هاتان الخاطرتان تشكلان مخرجاً من هذه الواقعة من صروف الدهر، وعزاء لنا، فالأدب يرسم دوماً طريق الخلاص، وسبيل النجاة، إنه بلسم يواسينا ويخفِّف من أنين ألمنا الذي لا يطاق.
أ.د.إلياس خلف

المزيد...
آخر الأخبار