حين علّق جمال السفاح –والي الشام للاحتلال العثماني البغيض- أحرار العرب الوطنيين على أعواد المشانق في دمشق وبيروت في السادس من أيار عام 1916م, لم يكن يدور في خلده أن التاريخ كتب اسمه بمداد أسود فخلّده بين أكبر مجرمي العالم, وسفاحيهم, ومستبديهم, وفي الوقت نفسه كتب أسماء هؤلاء الأحرار بأحرف من نور فخلّدهم رجالاً أبطالاً قدموا أرواحهم فداء لأوطانهم, ودفاعاً عن كرامة أهليهم, وأبناء وطنهم, فاستحقوا أن يسمّوا ( أكرم من في الدنيا, وأنبل بني البشر) لأنهم جادوا بأثمن ما يملكون (والجود بالنفس أقصى غاية الجود), وكانوا كواكب هداية تمشي على نورها الأجيال اللاحقة التي تعلمت من هؤلاء أن المستعمر لا يفهم إلا لغة البطولة, والكفاح, والتضحيات. ما أروعك أيها الوطن بشهداء الوطن في عيد شهداء السادس من أيار, هؤلاء العظماء الذين قدّرتهم أمتهم حق قدرهم, فكان لهم يوم عيد في كل عام, وكان حقهم على كل واحد منا أن يرفع لهم القبعة, وأن يحني قامته أمام عظمتهم, إجلالاً, وتكريماً, وعرفاناً: خير المطالع تسليم على الشهدا أزكى الصلاة على أرواحهم أبدا فلتنحنِ الهام إجلالاً وتكرمة لكل حر عن الأوطان مات فدا وربما كان لهذا اليوم ما يسوّغ وجوده في فترة من الزمن لأن أصحابه قد ذهبوا ضحية وعيهم بوجود العرب القومي في العصر الحديث, وإصرارهم على التحرر بعد قرون طويلة ومريرة من ظلام الجهل والقهر والتخلف والخنوع, أطبقت على العرب كما يطبق اللئام على الكرام في عصور الردة والنكوص. أما الآن فإنني أرى أن حصر عيد الشهداء في يوم واحد, لم يعد كافياً لتكريمهم, لأن الشهيد يتلو الشهيد, والقافلة تتبع القافلة, والدم لايفتأ ينساب طاهراً على تراب وطننا الحبيب.. سورية الصامدة العظيمة .. يقدمه الأبطال الشرفاء الذين يتصدون للغزاة والمتآمرين على أمن الوطن وسلامته، وكلهم ثقة بالنصر, والإيمان بأن التاريخ لايمكن البتة أن يعود إلى الوراء.. بل هو أمر محال.. فأحفاد شهداء أيار.. وشهداء تشرين.. وشهداء جنوب لبنان مشاعل نور لكل المناضلين المدافعين عن تراب الوطن, وقداسته, متصدين لكل الطامعين بأرض الوطن, ومافيه من خيرات عظيمة, وكنوز ثمينة , وتاريخ حافل بالبطولات الخارقة التي كانت وراء طرد الغزاة, والمستعمرين من أرضه على مر الدهور والأزمان, وما نشهده الآن من بطولات ليس طارئاً ودخيلاً على تاريخنا, فجذوره ضاربة في عمق التاريخ العربي الحافل بالخوارق, وستخرج سورية منتصرة قوية كطائر الفينيق الذي يحلّق بجناحيه أقوى مما كان عليه.. وعليه فمن البداهة أن أقول: إن أغصان الأشجار ليس باستطاعتها التطاول إلى السماء, ورفع هاماتها إلى الأعالي مالم يكن لها جذور تضرب في أعماق الأرض, وصدق الشاعر حين قال: لولا الجذور المطمئنة في الثرى ماكانت الأغصان ترفع هامها وليفهم العدو الصهيوني أن حلمه بضم الجولان, وآماله الكبيرة بالاستيطان والتوسع سيذهب أدراج الرياح, والتاريخ يثبت ذلك, فكما زال الغزاة من تتار وصليبيين وعثمانيين وفرنسيين, سيطرد العدو الصهيوني من الجولان وفلسطين المحتلة في قادم الأيام طال الزمن أم قصر.
الدكتور موفق السراج