عباس حيروقة
تُعيدني هذه الأيام من هذا الفصل فصل الخريف إلى تلك الأيام التي تركت الأثر الكبير الكبير في نفسي وأضافت لي الكثير على صعد عدة أهمها فتحت لي نوافذ التعرف والتعارف على جغرافية وأبناء جغرافية جد هامة من سوريتنا النور ..
في مثل هذه الأيام من هذا الفصل من ذاك العام مطلع التسعينيات وبالتحديد عام 1992 كانت لي تجربة خاصة ومهمة في سلك التعليم وكان من سوء أم حسن حظي آنذاك أنني تعينت في قرية حدودية بين محافظتي حلب والرقة من جهة وبين الحدود السورية والتركية من جهة أخرى قرية تتبع إداريا لمنطقة (عين العرب) التابعة لمحافظة حلب ..فهي قرية مجاورة حدودية لقرى ناحية (بغديك) التابعة لمنطقة (تل أبيض) في محافظة الرقة ..
تجربة أتاحت لي التعرف على أبناء قرى ممعنة في الكرم والطيبة والشهامة والأدب ..أبناء قرية احتضنوني كواحد من أبنائهم لا بل كانوا أكثر حرصا في أحايين كثيرة علىّ وعلى سلامتي.
كنت معلما وحيدا في تلك المدرسة وكان طلابها يأتونها من قريتين وعددهم 33 طالبا بدءا من الصف الأول وحتى السادس
تعيدني هذه الأيام لتفاصيل وصولي إلى منطقة عين العرب ودخولي مبنى التوجيه التربوي واستلام مباشرتي من الموجه الخاص بتلك القرى الشرقية ..
وتوجهي إلى تلك القرية وتنقلي بطريقة لا تخطر ببال احد من أبناء اليوم لأن لا طرقات مزفته أبدا فالدروب ترابية (قشق) إلى أن وصلت بيت المختار وبعد الغداء طلبت رؤية المدرسة ..وإذ هي غرفتان على سفح جميل ماتع غرفة للأستاذ بها خزانة حديدية وطاولة خشبية وكرسي خيزران والأخرى فيها مقاعد خشبية بحالة سيئة جدا..قرية جرداء ببيوت طينية دافئة جميلة ..
في اليوم الثاني حضر الطلاب وبعض الأهالي جهزوا غرفة الأستاذ بشكل يليق بهم وأيضا غرفة الطلاب ..
أهل قرية سورية بامتياز لم تختلف عن قرى مناطق سورية التي زرتها لاحقا ولم أجدها مختلفة عن أية قرية سورية من ريفنا الجميل ..عادات كرم ونبل وأصالة وجود ..
ذكريات كثيرة ماتعة مازالت معرشة على نوافذ القلب والروح تتركني ابنا لتلك الأيام ..ذكريات تعلمي المفردات الضرورية للغة أبناء تلك المنطقة (اللغة الكردية)
ليتاح لي أقل ما يمكن التواصل مع تلاميذ لا يتقنوا التحدث باللغة العربية ..
أذكر بمحبة كيف كان بعض التلاميذ يبتسمون بحياء شديد حينما ألفظ كلمة ما بطريقة الخطا أو في غير مكانها فأبتسم لهم طالبا التصحيح لي ..
ومن الأشياء الماتعة التي ما زلت أذكرها آنذاك هي تلك العربات التي يجرها حصان والمحملة بمواد عدة وكانت تقف بالقرب من المدرسة فيجتمع أهل القرية بنسائها ورجالها بشكل كرنفالي جميل وكان من اللافت أن معظم من يبتاع مادة ما يدفع لقاءها صوفاً أو حنطة أو شعيرا أو بيضا ..
وكانت عربة تحمل عنبا ورمانا تقف كل أربعة أيام تقريبا قبالة المدرسة ويهتف لي صاحبها بكلام لم افهم منه إلا ( أستاذ ) ويهرع مسرورا إليّ مالئاً حرجه ما استطاع من عنب ورمان ..فأوزع على التلاميذ كل كلها
ألله ما أجمل تلك الأيام وما أكثر خيراتها ..
أذكر حين هطول المطر الغزير الغزير ذات مساء كيف كانت كل رجالات القرية أمام غرفة الأستاذ خشيةعليه من أن تدلف غرفته أو أن يصاب بمكروه ..
أهل قرية كل ما فيها يفور كرما ومحبة وانتماء لإنسانية إنسان فطر على الخير والمحبة والسلام ..
هكذا كانت سورية ..وستبقى