تحدّثنا غير مرة عن الموت ..عن أسئلة الموت
هذا اللغز الذي كلما حاولنا فك بعض رموزه وجدنا أنفسنا ندخل في دهاليزه ومتاهاته التي لاتنتهي .
كلما مررت في جوار مقبرة ورأيت الناس يدفنون موتاهم ..
كلما شاركت في جنازة قريب أو صديق أو جار وحضرت مراسم الدفن لاسيما موارته الثرى ..
وعندما اضطررت آسفا لحضور مراسم غسل ميت ..
وكلما أقف أمام جسد مسجى في صلاة جنازة ..
وكلما أحضر مراسم القاء نظرة الوداع ..
كلما ..وكلما ..الخ
كل هذا وذاك ..وكل ما مررت به من ممارسات وسلوكيات ومعايشات للموت ومفرداته ساهم في طرح أسئلة الموت لا بل
تتسع امامي تلك الأسئلة إلى مابعد الموت حدّ الرهبة والقلق والخوف ..
لم أكن أتوقع في يوم ما أنني أملك القدرة على ملامسة جسد عزيز ميّت أو تأمل وجهه عن قرب إلى ان توفى الله العلي العظيم اخي الشاب الدكتور سامر حينها اقتربت وكأنني لست انا ..ضممته وضعت خدي على خده وبكيت وكأنه ليس بميت أبدا
وهذا ما تكرر حين توفى الله والدي بين يديّ
إذ بعد ان ضممت يديه وقمت ماقمت به اسبلت جفنيه بيدين مرتعشتين وفرشت الغطاء على جسده ووجهه ونهضت ولم أنهض ..مشيت وما زلت جاثيا خاشعا امام اسئلة الموت
نعم مابين أن يكون والدك بين يديك وهو حيّ وما بين وجوده بين يديك جثمانا فقط طرفة عين ليس إلا..شهقة نور ..لمعة برق
يا الله ماهذا السر الكبير الكبير الذي اسمه الموت ..وما أعظم لغزه ؟؟!!
نعم إنها الحياة
إنه الموت
كلما أمر من أمام ( المبرّة ) التي كنا غير مرة نستقبل فيها وفود المعزين وأرى ما أراه من اولئك الذين يقومون اليوم بذات الدور الذي قمنا به بالأمس يقفون في مكان وقوفنا مرحبين ..ونحن المعزون المعزون نجلس على ذات الكراسي لدقائق ونغادر ..
أنظر في وجوه المعزين أجد انهم هم هم لاتبديل بل تبادل أدوار وحسب أي اليوم نحن وغدا هم وبعد غد ..وبعد بعد غد ..الخ
هي ذي الحياة
وهو ..هو الموت
وهذا ما ينطبق تماما على الشافي..فكم مكثنا فيها في أقسامها لأيام واسابيع وأسمعنا آهاتنا وأنين جراحنا لنزلاء معنا وسمعنا صراخهم وشكواهم واستقبلنا في غرفنا ومن على أسرتنا البيضاء أصدقاء وأقارب زائرين ..
وكم دخلنا ذات المشافي . وذات الأجنحة وذات الغرف والأسرة زائرين وطمئنين على حال أخوة لنا وأصدقاء ..؟؟
هي ذي الحياة
وهو ..هو الموت
أمام كل هذا وذاك كم علينا نعمل كل ما في وسعنا على تبديد ولو بعض بعض الغبش الذي يغطي أعيننا ..؟؟!!
كم علينا أن ندرك أن الموت وراء الباب ..تحت الوسادة لا بل بين أصابعنا ..فوق رموشنا ..
الموت أقرب من حبل الوريد ..
أمام كل هذا وذاك أما علينا أن ندرك نحن البشر أننا أمام رسالة واحدة جلية واضحة علينا أن نعيد قراءتها جيدا ونعمل على تنفيذ ما جاء بها
رسالة واحدة وهي أننا أبناء الحياة وصنّاعها .. أننا منتج ثقافة انسانية كونية علينا ان نعمل على تعزيزها ..ثقافة البناء والعطاء والسلام ..
أننا خليفة الله على أرضه..
وجدنا لنملأها خيرا ومحبة وجمالا وعدلا
وأن نبتعد عن ثقافة القتل والبغض والحقد والكراهية والموت ..
الحياة جد قصيرة ونملك كل مقومات أن نحياها بمحبة وخير وسلام وهذا ليس بالأمر الصعب والمعقد ..فقط علينا ان نكون اكثر جرأة في مواجهة ومقازمة الذات المريضة أن نزيل الحجاب عن أعيننا.. الغبش وان نرى الحقائق كما يليق بها وكما شيء لنا ..
لنقرأ أيامنا جيدا ..صباحاتنا ..أماسينا
للنبذ ثقافة الأنانية والأنا المتورمة وننظر بعين المحبة والسلام إلى كل من حولنا ..
نعم إنها الحياة التي تستحق منّا أن نكون أوفياء لها ولنا وأن ننحي جانبا سفاسف الأمور وأن نحب بعضنا بعضا ..فكلنا راحلون والأبقى من زرع الخير والمحبة والجمال في حقول وعقول ودروب الناس..الأبقى من سقى تلك الحقول ..العقول ..الدروب بأمطار البوح ..القول ..الفعل الجميل الجميل .
عباس حيروقة