غابرييل ماركيز .. والسلام الكوني

منذ ظهور الحياة على الأرض كان لابدَّ من مرور ثلاثمائة وثمانين مليون سنة كي تتعلّم الفراشة الطيران، وكان لابدّ من مئة وثمانين مليون سنة أخرى كي تتقن الطبيعة صنع وردة من دون أن يكون لها هدف آخر سوى الجمال، وكان لابدّ من أربعة عصور جيولوجية كي تتمكن الكائنات البشرية خلافاً لجدّنا قرد بيتكانتروب من الغناء خيراً من العصافير، ومن الموت حبّاً، ومن غير المشرّف للعبقرية البشرية في العصر الذهبي للعلم، أن تتصوّر أن عملية مكلفة وهائلة، تطلّب إنجازها ملايين السنين، يمكن لها أن ترجع إلى العدم الذي جاءت منه، بمجرد الضغط على زر.‏ 

بهذه العبارات المحزنة والتي تنمّ عن قلق كبير عاشه ويعيشه العالم بأسره من ظاهرةٍ في غاية الخطورة بدأت من عقود تقضّ مضجع العالم كل العالم وهي التي حملت وتحمل الخراب والدمار لكل مفردات الله في البر والبحر والجو..ألا وهي ظاهرة التسلّح النووي، هذه الظاهرة التي سارت باتجاه معاكس للذكاء البشري.. لا ليس البشري وحسب، بل معاكس لذكاء الطبيعة ذاتها.‏
هكذا يعبّر الروائي العالمي الكولمبي غابرييل غارسيا ماركيز في خطابه الثامن والمعنون بـ (كارثة ديموقليس) والذي ألقاه في اجتماع القمة الثانية لمجموعة الستة في المكسيك بتاريخ / 6آب 1986 / والمتضمن في إصداره الجديد والذي جاء بعنوان: (لم آتِ لألقي خطاباً) الصادر عن الهيئة العامة للكتاب – وزارة الثقافة – دمشق لعام 2011 ترجمة صالح علماني) نعم هكذا عبّر وحذّر من الخطر النووي الذي يجتاح العالم كطوفانٍ مميت، داعياً العالم أن يعي خطورة ذلك قبل فوات الأوان ، والعمل بكل الطاقات لتجنب الأرض هول كارثة كونية ما، حذر آملاً في تحقيق السلام والأمن وجعل الحياة أفضل الحيوات الممكنة.‏
)لم آتِ لألقي خطاباً) كتاب في غاية الأهمية، إذ لا يقلّ حضوراً وقدرة على امتلاك المتلقي من أي عمل روائي له، كتاب يضم مجموعة خطابات له قدّمها على منبر الحياة، خطاباتٍ عكست تطور وعيه في السعي جاهداً لامتلاك أدوات فعله الإبداعي، فما بين خطابه الأول ) أكاديمية الواجب) عام 1944 والذي لم يكن يتجاوز السابعة عشرة من عمره آنذاك، وخطابه الأخير (روح مفتوحة لتلقي رسائل بالقشتالية) عام 2007 وهو في الثمانين من عمره ما بينهما مراحل هامة وكبيرة وخطيرة خبرها ماركيز وخبرته فكلل بالنجاح والحب والتكريم، خطابات الكتاب كلها جديرة بالوقوف أمامها ومطولاً وقفة نقدية تأملية وخصوصاً أحاديثه الشيّقة عمّن يحبّ ويصادق..فنلاحظ ماركيز كيف يطير روحه ويحوّلها إلى أسراب فراش من حيث لا يدري يطير ويطير متجهاً إلى وهج المحبة الجميل المغري جداً بالموت و بالانعتاق.‏
لن أتحدث الآن عن قدرات ماركيز الإبداعية وملكاته الشعرية والأسلوبية الأخاذة ،ولن أتحدث عن جوائزه الأدبية وعلاقاته الهامة مع رموز الأدب والفكر والسياسة في العالم، كما أنني لن أتحّدث عن رحلاته العجائبية في بلاد الله العامرة بالحب والجمال، ولن أتحدّث عن كتابه هذا ككل، ولكن‏ هي دعوة أوجهها لكم إخوتي القرّاء لتناول هذا الكتيب الهام علّنا نصبح أكثر قدرة على تأمل الجمال ونبذ القبح.

 عباس حيروقة

المزيد...
آخر الأخبار