بين الشكل والمضمون

لاشك في أن الفن عامة , والشعر خاصة , يملكان ـ أو يجب أن يملكا ـ مستوى  فنياً  أو جمالياً , يستطيعان من خلاله أن يؤثرا في النفوس ويصلا إلى الغاية التي يريدان بوساطة  المضمون المتناول, عندها يستحق  أن يسمى كل منهما فناً.
 ولاشك أيضاً في أن الفن الرائع ـ بمعناه الواسع ـ هو ذاك الذي  يجتمع فيه شيئان : جودة الشكل , وقضية ـ أو مضمون ـ تنضوي تحت لوائه وكل منهما يندغم بالآخر, ويتضافر معه  في وحدة عضوية متماسكة ليكون بعدئذ عملاً أمثل هو الغاية التي ليس وراءها غاية , أما الشكليُّون الذين يعمدون إلى التزويق والحذلقات اللفظية فقط، فأعمالهم عبث لاطائل تحته, ولاجدوى منه, ولعل المكانة التي حققها المتنبي في شعره عند النقاد, أتت من قدرته على التزاوج ( أو المصاقبة في تعبيرهم)  بين الألفاظ والمعاني في وحدة متناغمة فيها الجمال والرقي وسمو اللفظ والمعنى , أضف إلى ذلك تعبيره عن مكنون النفس  الإنسانية, وعواطفها الخالدة…
 وبصرف النظر عن رأي الرائين في وحدة العمل الفنية , فقد تكون مسألة الشكل والمضمون , هي الوجه الصريح للقضية التي أتناولها, وهي قضية قديمة جديدة في آن معاً , إذ تناولها النقاد والمنظِّرو ن بدءاً من ( أرسطو) مروراً بنقادنا القدامى, وصولاً إلى النقد الأدبي الحديث, وهي تتعلق بمسائل علم الجمال.
 ولست بصدد رصد تاريخ القضية , لأنها أوسع من أن تعالج هنا, ولكنني رأيت  أن أسوق  ذلك لأذكِّر بفكرة لايجوز نسيانها , وهي أن الشعر, على وجه الخصوص, فن بالدرجة الأولى , ولايجوز لنا أن نحاكمه أو نحكم له أو عليه من منطلق فكري، وإخضاعه لرؤية محددة أو موضوع محدد, ففي ذلك تجنٍّ وظلم نوقعهما بحق الشعر, لأننا نجعله أشبه  بمادة ندخلها المخبر للتحليل.. فالتحنيط.
 إن التضحية بفنية الشعر وجماله على حساب الموضوع   ليس من الإنصاف  في شيء, كما أن التحدث عن مثل هذا النوع لايملك المشروعية, لأن أدنى شيء  يُسوِّغ  الحديث عن الشعر , هو وجوب امتلاكه فنية أو جمالية يستطيع  بها أن يدخل إلى القلوب والعقول معاً ليصل غايته ومبتغاه, وإلاَّ لم يعد لهذا الفن الرائع تلك الميزة التي يمتاز بها, ولَسَدَّ مسدَّه, وأدى دوره أي  علم من العلوم أو درس من الدروس ففيهما  من الفكر مايغني ويفيد.
 وبعد فماذا نقول في شعر ( يستحق  هذه الكلمة) تناول الحب والغزل؟ أنسقطه ـ على روعته ورقيِّه الفني ـ لأنه لايعبر عن همومي ومعاناتي, أو هموم ومعاناة الإنسان في كل مكان؟
  الشعر الحقيقي يظل شعراً رفيعاً  يأبى السقوط ويرفض الاندثار, وإن كان لايعالج الموضوع الذي أريد, والطرح الذي أرغب, وإن كان كذلك لايعالج  مايغلي في نفسي من معاناة.
 وأراني أجاهر  القول بأن قصيدة غزلية رائعة فنياً وجمالياً, أبقى وأجمل من قصيدة رديئة في حب الوطن, ليس فيها شيء من فن الشعر وجماله وقوة تأثيره, بل أروع من قصيدة أخرى أو شعر كثير لايستأهل أن يسمى شعراً  , يحاول طرح شعارات أو مواضيع في حب الإنسانية والإنسان.

د . موفق السراج

المزيد...
آخر الأخبار