أعرف أن سدود الأنهار ( بغضّ النظر عن سعة حوضها ، أو قوة تدفق مائها ) تحتاج إلى دراسة هندسیة خاصة ..
وأعرف أن المكان الذي یتم اختیاره لبناء السد ، له مواصفات دقیقة ، وخصائص جیولوجیة متمیزة ، لاتتوافر إلا في أماكن محددة من مجرى النهر ..
وأعرف أیضاً.. أن كلامي متأخر جداً ، بل لاجدوى منه ، فقد مضت عقود عدیدة على بناء السد ، إذ بدئ العمل فیه منذ أواسط الخمسینیات من القرن الماضي..
وعلى الرغم من هذا وذاك .. أتساءل أحیاناً : ألم یكن في الإمكان ، اختیار موقع لسد الرستن ، غیر الموقع الحالي ، موقع آخر بعید عن مدینة الرستن ، موقع یشابهه في مواصفاته ، یماثله في خصائصه ، لكنه یأتي جغرافیاً بعد مرور نهر العاصي بمدینة حماة، أجل بعد مروره بها ، ولیس قبل مروره ..
لوكان الأمر كذلك ، أو لو كان هذا التساؤل في مكانه ، لتخلصنا من جفاف نهر العاصي ، أو تجاوزنا قلة میاهه ، أو تجنبنا على الأقل تلوث مجراه ، ورائحته الكريهة ، نتیجة انقطاع المیاه القادمة من السد بین آونة وأخرى ، فحماة هي أكثر المدن ارتباطاً بهذا النهر العظیم ، وحماة لها الحصة الكبرى من جوده وعطا یاه ، إنه عصب أساسي في هذه المدینة ، فهو الذي یمر من منتصفها ، یروي عطاشها ، یسقي بساتینها ، یدیر نواعیرها ، وهو الذي یدعم طبیعتها الآسرة ، یستعرض مفاتنها ، ویبرز جمالها الأخاذ !!.
یقول أحد الأصدقاء القدماء ، الذین عاصروا الفترة الزمنیة التي سبقت إقامة سد الرستن :(لا أذكر قدیماً قبل بناء السد ، أن النهر قد انقطع مروره بحماة قط ، وكنا كل الصیف نسبح بمیاهه المتدفقة ، وكانت مدینة حماة
مدینة الخضار والزهور والروائح العطرة).
أما إحداهن فقد قالت :(سد الرستن هو موجود ، لتنظیم جریان النهر لمدینة حماة ، لیحمیها من السیول والفیضانات التي كانت تصل إلى مدینة حماة ، أما حبس المیاه في السد عن الجریان ، فذلك أمر آخر ) .
وقد كان جوابي :إن مشروع درء السیول ، الذي أنشىء في عهد الوحدة ، هو الذي یقي حماة من السیول والفیضانات ، ویبدأ المشروع في نهایة
المنطقة التي تسمى مجرى الزیادة ، یبدأ قبیل باب طرابلس ، ویمر بحارة الجسر وشارع المرابط ، وینتهي عند مجرى النهر فساحة العاصي .. لقد حفرت أعماق هذه المنطقة أمتاراً عدیدة ، لتستوعب كمیات المیاه الفائضة التي كانت تأتي مع الهطولات المطریة الغزیرة والتي كنا نسمیها ونحن أطفال بالزیادة ، على كل حال .. نحن لاننسى فیضان نهر العاصي ، الذي جرى قبل نحو خمس عشرة سنة ، وربما أكثر ، وقد تدفقت وقتئذ میاهه الجارفة لتغمر الحدائق والبساتین والأراضي المحیطة به ، على الرغم من
وجود سد الرستن ، إذ إن میاه الفیضان لم تأت من طرف السد ، لكنها جاءت من اتجاهات أخرى ، ولم یستطع السد أن یحجز میاه الفیضان ، ولم یستطع أن یحمي حماة وأراضیها من مياه النهر ، وأنا أذكر أنني كتبت وقتئذ مقالة بهذا الخصوص ، عنوانها: (عندما تغضب الأنهار ، نشرتها في مجلة فنون الدمشقیة ).
د. موفق أبو طوق