رافقتَ الموسيقا الشِّعر منذُ وِلادتِه, وَستبقى مَعَهُ مادامَ حيّاً. فمنذُ بدأَ الإنسانُ يرتجلُ مشاعرَه وأحاسيسَه شعراً ونظماً, وقع كلماتِه على إيقاعٍ يلائمُ تلكَ الأحاسيسِ والمشاعرِ, فكانَ يأتي بإيقاعٍ صاخبٍ عندَما يكون انفعالُه شديداً وخاصَّة في أوقاتِ الحربِ والقتالِ, ليصلَ صوته إلى أسماعِ خصومِه أوْ أصدقائِه على حدٍّ سَواء.
أمّا عندَما يخلدُ إلى نفسِه أو حبيبتِه فإنَّه يهمسُ مشاعرَه هَمساً وتهدأُ نفسه فيهدأَ معَها إيقاعُ كلماتِه وحروفَه. وحيث إنَّ الموسيقا ليست زينة أو عنصراً هامشياً في القصيدة.
واللُّغة العربيّة تتميزُ بموسيقاها , فجميعُ ألفاظِها تعودُ لنماذجَ منَ الأوزانِ, سَواء كانتْ شعراً أو نثراً, وقدْ استفادَ الشُّعراءُ من هذهِ الخاصيّة المُوسيقية, فقابلوا بينَ نغمةِ الكلامِ وموضوعه مقابلة جميلة , لذلكَ فإنَّ الموسيقا ليستْ حِلية زائدةً في الشِّعر, يمكن الاستغناء عنها كما يدعي بعض دعاة الحداثة, بلْ لها دورٌ كبيرٌ في بيانِ المعنى والتعبيرِ عن الموضوع . إنّ قول الشاعر امرؤ القيس يصف جواده:
مِكرٍّ مِفرٍّ مُقبلٍ مُدبرٍ معاً
كَجلمودِ صَخرٍ حَطّهُ السَّيلُ منْ عَلِ
هذا التوازنُ المُوسيقي يُوحي للسَّامع بحركةِ الجَواد, بصورةٍ تفوقُ آلةَ التَّصوير التي تُصورُ الحركةَ بطريقة جامدةٍ, بينما نجدُ الشاعرَ يصورُها بطريقةٍ نفسيةٍ .
كما نجدُ تلكَ الإيقاعاتِ المتواليةِ الحركاتِ في ألفاظ ٍقصيرةِ الأوزانِ عندَ الشَّاعر البُحتري وهو يصفُ الذئب :
عَوى ثمَّ أقعى فارتجزتُ فهِجتهُ
فأقبلَ مثلَ البَرقِ يتبعهُ الرَّعْدُ
فالشاعرُ هنا يستخدم كلمات ذات مدلول حركي وصوتي ومصاحبات لغوية كما تكرر حرف الفاء وحرف القاف الذي يفيد الحركة والقلقلة إضافة إلى حركة الضمّة في آخر الكلمات من أسماء وأفعال.. بما فيها من مدّ الصوت.
فالموسيقا عنصرٌ تعبيريٌ نفسيٌّ في الشِّعر , يلعبُ دوراً رئيسياً في إثارة الخيال لدى المتلقي , فيحلق مع القصيدة , ويسبرُ غورها , ومكامن الإبداع فيها , وهذا الأمر يستدل عليه في القصائد التي لُحِّنت وأُدّيت بأصوات مغنين بارعين.
لكنْ كيفَ اكتشفَ الإنسانُ تلكَ الإيقاعاتِ ؟ هُناكَ نظرياتٌ في علمِ الأصواتِ (الفُونولوجيا) أهمها نظريةُ المُحاكاةِ الَّتي قالَ بِها كثيرٌ منْ عُلماءِ النَّفسِ والتَّاريخِ. لكنَّ السؤال المطروح في هذه الأيّام: أيقتصرُ العنصر الموسيقي في هذه الأيّام على الأوزان العروضية , التفعيلات، أم تتنوع الموسيقا في النص الشعري؟ يتفق معظم دارسي الأدب على أنّ الموسيقا في النص ذات مستويين: المستوى الخارجي والمستوى الدَّاخلي, فالوزن والقافية وتكرار بعض الحروف والإيقاع والطِّباق والجناس والتصريع والترصيع ورد العجز على الصدر في القصائد ذات الشطرين, والمصاحبات اللُّغوية, هي من المستوى الخارجي الذي ندركه باللفظ أو القراءة, أما المستوى الداخلي فيتمثل بالصور والمعاني من حيث انسجامها وارتباطها بذلك الخيط الهارموني الذي يخلق نوعاً من الانسيابية في النص .
أمّا ادعاء بعض من ينظرون للنثر ويضعون شرط إهمال الموسيقا ليصبحَ النَّصُ المكتوبُ قصيدةَ نثرٍ, فهو في رأييِ إدعاءٌ باطلٌ لا سندَ لهُ, ومهما حاول الكاتبُ أن يحقق هذا الشرط فلن يفلح, لأن طبيعة الألفاظ والمعاني تفرض عليه نوعاً من الموسيقا والإيقاع, سواء كتب نثراً أم شعراً.
فائق موسى