ذهبت إلى طبيب صديق في عيادته فرحَّب بي وعبر عن فرحه بزيارتي . فقلت له : جئتك اليوم مريضاً لتعالجني . قال لي وهو يفحصني : هل تقرأ ما أكتبه من مقالات ؟ قلت له : أين تكتب ؟ في جريدة ( الفداء ) ! قال : لا. قلت : في ( تشرين ) .قال : لا . قلت : في ( الثورة ) ؟ قال : لا . قلت : في … في … قال : لا … لا … إنني أكتب في صفحتي على الفيسبوك . قلت له : حسناً سأقرأ ما تكتبه . وقرأت ما كتبه فوجدت في كتابته مالا يتوافر في الكتابة الحقيقية التي يخطها يراع الكاتب الحقيقي ، والأديب المثقف الموهوب الذي تمكن من أدوات الكتابة لغةً ، ونحواً ، وصرفاً ، وموهبة، وثقافة واسعة . فكتابته سطحية ، وتعج بالأخطاء اللغوية.
قلت : إن الشبكة العنكبوتية جعلت الجميع /كتّاباً / ظناً منهم أن الكتابة أمرٌ هيِّنٌ يقوم به من هبَّ ودبَّ ، وبالنسبة لهؤلاء هو أمر سهل فهم يكتبون وينشرون دون رقيب ، ودون لجنة مختصة من المثقفين والأدباء تحكم بصلاح كتابتهم من عدمها كما هو الحال في الصحف والمجلات .
فالكتابة ليست بالأمر السهل البسيط على الإطلاق ، والمشتغلون بالكتابة من حملة الأقلام يدركون أكثر من سواهم حقيقة ذلك . فكم تبدو لنا الأفكار جليَّة واضحة فإذا ما شرعنا في نقلها إلى الورق بدت الصعوبة في المدخل، والربط ، والمعالجة ، وانتقاء الألفاظ الملائمة ، ومن ثم المخرج ، ومسوِّدات كبار الكتاب تشهد على ما أقول ، ومن يتحقق منها يدرك مدى التعب الذي عاناه كل منهم ، وكثرة الشطب والإضافة اللذين أرهقا الأثر والمؤثر حتى خرج في صورته الأخيرة .
ويذكر لنا تاريخ الأدب أن ( جورج سيمونز) كان يلقي بكل ما كتبه في سلة المهملات عندما يتعثر في الكتابة لسبب ما ، كي يبدأ من جديد ، وأما الروائية العالمية الشهيرة ( أجاثا كريستي) فكانت تقول : إني في الأيام العشرة الأخيرة قبل الكتابة أحتاج إلى تركيز محكم ، على أن أظل وحدي دون ضيوف ورسائل ، ثم أبدأ في الكتابة بعد ذلك .
وأما ما يبدو من سهولة بعض الكتابات حتى نتوهم بأن أياً منا يستطيع كتابة أمثالها ، فليس إلا من قبيل الأسلوب المعروف بالسهل الممتنع الذي لا يتحقق إلا للكاتب البارع الذي امتلك من المعرفة واللغة ذخراً كبيراً ، ومعاناة كبرى ، وقدرة فنية تمكّن من خلالها من وضع الكلمة المناسبة في مكانها المناسب ، كما تمكّن من ربط موضوعه برباط قوي متماسك ، فجمع بين اللغة والعلم والفن والثقافة والمعاناة والموهبة .
إن الهذر والمقاهي وسهرات السمر لا يمكن أن تنتج كاتباً على الإطلاق ، ونصحي هنا لمن يريد أن يغدو كاتباً حقيقياً ما قاله الكاتب الشهير ( همنغواي) حين سُئل : ما هو خير تدريب ذهني لمن يريد أن يصبح كاتباً ؟ أجاب : لِنَقُلْ إن عليه أولاً أن يخرج ويشنق نفسه ، لأنه يجد الكتابة الجيدة صعبة لدرجة الاستحالة ، ثم يجب قطع حبله دونما شفقة ، وإجبار نفسه بنفسه على الكتابة بأحسن ما يستطيع بقية حياته ، على الأقل ستكون لديه قصة الشنق ليبدأ بها .
د. موفق السراج