أن تكون شاعراً فذلك ممكن ، والشعراء كثيرون . وأن تكون شاعراً حقيقياً لامعاً يشار إليه بالبنان ، فذلك ليس بالأمر السهل الذي يقدر عليه أي إنسان ، والشعراء الحقيقيون قلة ، وهم كقمم الجبال قليلة وتراها العيون كلها ، والأقل من هؤلاء أن تكون شاعراً حقيقياً كبيراً وإنساناً توافرت فيه عبقرية الشاعر وإنسانية الإنسان في الوقت نفسه . ومن هذه القلة القليلة الشاعر الجليل عبد الوهاب الشيخ خليل الذي غادر عالمنا في 2/7/2018 فكان لرحيله وقع مؤلم في نفوس عارفيه ومحبيه . ولقد لمست إجماعاً للناس على محبته ، فما وجدت أحداً يكرهه أو يذكره بسوء … رحل بعد صراع طويل مع المرض … وكان قبل رقدته الأخيرة في المشفى ، والتي لم تتجاوز اياماً معدودة يتمتع بذاكرة قوية فيحدثنا عن أشياء عاشها منذ سبعة عقود أو ثمانية كما كان شجاعاً غاية الشجاعة في تقبله للموت ، وإقباله على الحياة حتى لحظاته الأخيرة … وقد أسمع زائريه قصيدة غزلية تتحدث عن تجربة حب عاشها أيام الشباب والابتسامة تملأ مُحيّاه …
وقبل شهر من مرضه الأخير ، كان يواضب على الحضور إلى مقر فرع اتحاد الكتاب العرب بحماة يومي الأحد والأربعاء ، وهما اليومان المخصصان لعقد النشاط الأدبي والثقافي … فكان يستمع باهتمام لما يُلقى … وكان يشارك في النقاش الذي يدور في نهاية المحاضرة ، وكان نقاشه علمياً ومختصراً …
وقد يلقي علينا بعض أشعاره فنشعر بالمتعة ، والسعادة , والفائدة …كان يدخل اتحاد الكتاب متوكئاً على عكازه ، وحين ينهض ليتكلم بعد المحاضرة أو يلقي بعض قصائده كان يقف منتصب القامة دون عكازه … وإذا حاول أحد أن يساعده في الوقوف ، رفض هذه المساعدة بكبرياء …وكأنه يقول مازلت قوي البنية وإن كنت شيخاً تجاوزت التسعين .
كما كان ــ رحمه الله ــ حساساً إلى أبعد حد … فإذا كان ممسكاً بزمام الحديث ، وقاطعه أحد الحاضرين ، أو تحدث اثنان في المجلس حديثاً جانبياً ، ثارت ثأرته ، وغضب غضباً شديداً ، وربما حاول مغادرة المجلس لأن من يتحدث ينبغي أن يجد حوله آذاناً صاغية .. وإلا فما فائدة الحديث ، وأين هي قيمة المتحدث ؟
من يعرفه أول مرة ، ويستمع لحديثه يأنس له ويحبه لكياسته وثقافته وطريقته المحببة في الحديث والتعامل مع الآخرين … ولا يشعر الشاب بفارق الزمن مع شيخ كبير … وثقافته غنية متنوعة جمعت بين التراث والمعاصرة … أضف إلى ذلك أنه نشأ نشأة فقيرة جداً ،ولم يدخله أهله المدرسة لفقرهم ، لأنهم كانوا مضطرين لعمله كي يساعدهم ، فتعلم في سن متأخرة ، وتابع تعليمه حتى حصل على الإعدادية والثانوية وشهادة الحقوق ، وصار عضواً في اتحاد الكتاب العرب … بعد أن قضى حياته عصامياً كافح في دروب الحياة ، فعمل حذّاءً وحارساً ليلياً ، ثم معلماً … وسمعت منه أنه لم يتمكن من مزاولة مهنته المحاماة لعدم قدرته على دفع الرسم لنقابة المحامين كي يصير عضواً فيها … ولم يجد من يقرضه هذا الرسم .
د. موفق السراج