ينتاب نفسك الأسى ، في حياتنا اليومية ، من بعض الأمور التي تحدث أمامك كل حين ، ومن تلك الأمور افتقاد الكثير منا لأصول الحوار وآدابه ، ويكون الأمر مزعجاً أكثر حين يدور هذا الحوار في مجلس ما بين مجموعة من الناس المحسوبين على العلم والثقافة والمثقفين ، فلا تجد لقواعد الحوار أثراً بينهم ، فالفوضى والصراخ والمقاطعة والانفعال والعصبية وتسفيه رأي الآخر وقول بعض الكلمات الجارحة… كل هذا هو الذي نجده في كثير من هذه المجالس .
وهذا السلوك من أي من المتحاورين يدل على مدى الغرور والعنجهية بعدم تقبل رأي الآخر ، والاستماع إليه ، واحترامه … ومن يفعل ذلك أراه ابتعد عن جادة الصواب ، وجعل نفسه في المكان الخطأ الذي لا يعود عليه بنتائج محمودة ، فالناس ينبذونه وينفرون منه ، ويتضايقون من وجوده في أي مجلس ، لأن الغرور مقتلة لصاحبه، والمغرور بكل تأكيد شخص مأزوم يعاني من عقدة نقص… وتراه لا يحترم الآخرين ظنا منه أن في ذلك إثباتاً لوجوده وسنداً متيناً لشخصيته.
وهذا ما يجعله أحياناً يتطاول على من هو أعلى منه قدراً ،وأجزل عطاء ، وأكثر علماً، وأرفع منزلة وسمعة في مجتمعه الذي يحيا فيه .
ولو عرف أن من يحترم الناس فإنما يحترم نفسه بكل تأكيد، وأن من ينظر إلى الناس نظرة فوقية ، فإنما يسيء لنفسه قبل الآخرين ويصغر في عيونهم ….لو عرف ذلك لما فعل ما يفعله وذلك ما عناه الشاعر القديم بقوله (ومن لا يكرم نفسه لا يكرم ).
وقول الآخر:
إذا أنت لم تعرف لنفسك قدرها
هواناً بها كانت على الناس أهونا
وغير ذلك فإن مثل ذلك الشخص لا يتقبل النقد ولو كان صغيراً لاعتزازه الكبير بنفسه ولعدم معرفته آداب الحوار والمناقشة التي ذكرها علماء التربية بأنها (سيادة الهدوء، والبعد عن الفوضى في التعقيب، واحترام آراء الآخرين، وعدم تسفيهها، وعدم المقاطعة بإفساح المجال للمتحدث كي يبدي وجهة نظره، وعدم احتكار فرد واحد للكلام، والابتعاد عن الانفعال والغضب في أثناء الكلام، والرد والتعقيب، وعدم التلفظ بكلمات نابية) لأن تلك الكلمات لا تمحوها الأيام كما قال الشاعر : جراحات السنان (الرمح) لها التئام ولا يلتام (لا يلتئم) ما جرح اللسان وقد كان لي صديق مثقف, وعلى علم غزير, ومتحدث جيد ولكنه يريد احتكار الحديث في أي مجلس ،وإن تحدث غيره قاطعه، فقلت له ذات يوم بيني وبينه : أنت صديقي ويقولون صديقك من صدَقك لا من صدَّقك …وعليه أريد أن أقول لك شيئاً، ولكن بشرط ألا تسوء الصداقة بيننا.
فقال: قل ولن تسوء الصداقة بيني وبينك، فقلت: أنت تجيد الحديث ولكنك لاتجيد الاستماع، والكلام أخذ وعطاء يا صديقي …. ولكنه لم يكن كما وعدني فقد ساءت على إثرها الصداقة بيني وبينه .
د.موفق السراج