في أحيان كثيرة نقرأ كتاباً أو عملاً أدبياً ينال إعجابنا فنعود إليه مرة بعد أخرى وكلما قرأناه وجدنا فيه جديداً ، وازداد إعجابنا به … وحين قرأت من جديد إحدى مسرحيات شكسبير أحسست أنني أعيش بكل خلجاتي أحداثها الدرامية ، وكأنني أحد أبطالها على الرغم من البون الشاسع الذي يفصل بيني وبينها في مدار الزمن فأدركت أن ( تشرشل ) كان محقاً حينما سئل بين أن يخسر الهند أو شكسبير ،أجاب دون تردد : أخسر الهند ليبقى شكسبير .
كما أدركت سر قولهم : لقد حرر ( غوته ) العالم من آلامه في روايته ( آلام فيرتر ) وكذا الحال يسري على بعض أدبنا العربي وشعره الذي استحق أن يكون خالداً على مر العصور ، وأن يثير إعجاب الأجيال جيلاً بعد جيل .
وتعليل هذا الخلود في رأيي المتواضع عائد إلى أن مثل هذا الأدب أو الشعر يعالج مشكلات النفس الإنسانية، وأزمات الإنسان السرمدية المتكررة في كل زمان ومكان ، كما أن الأدب عامة والشعر خاصة نابعان من العواطف والمشاعر والانفعالات التي يحس بها الأديب والشاعر قبل إبراز الأثر إلى حيّز الوجود ، وكأن الناس في عواطفهم ومشاعرهم لا يكبرون ولا يشيخون ، إنما الذي ينمو ويشب ويكبر هو العقل ، ودليل ذلك أن الكثيرين ممن علا شأنهم الفكري وكانوا من وجهاء قومهم ، يصيرون كالأطفال في لحظات الحب الخالص ، وقد عبر عن هذه الحالة الشعراء الفرسان الذين عرفوا بالشجاعة الفائقة ، والتغلب على صناديد الرجال في المعارك ، ولكنهم ضعاف مغلوبون في لحظات الحب الرائع الجميل أمام أنوثة ساحرة تفتك بذوي الشجاعة والقوة والعقل الكبير كما في قول جرير :
يصرَعْن ذا اللُّبّ حتى لاحراكَ به
وهنّ أضعف خلق الله إنسانا
ومن البداهة القول :إن حقائق العلم لا تملك صفة الخلود التي تتوافر للفن الذي تتوافر فيه صفات الخلود ، لأن العلم حقائق غير ثابتة كما هي مشكلات الإنسان ، وعواطف النفس البشرية ، وما يتغلغل في أعماق حناياها ، فيكون مضحكاً لو تركنا أحدث ما توصل إليه الطب وعدنا نطلب علاج أمراضنا في كتب ابن سينا مثلاً .
إن حقائق الأدب أكثر استقراراً وخلوداً في الحياة الإنسانية ، وتستمر الآثار الأدبية الحقيقية الراقية فاعلة لأنها قائمة على أشياء ثابتة فينا ، على نفسنا الإنسانية وما يعترضها من مشكلات وأزمات … وما يسكن فيها من عواطف وانفعالات … وستظل خالدة ما خفقت قلوب البشر .
د. موفق السراج