قبل زمن ليس بالبعيد ألقيت محاضرة عن أحد شعرائنا المعاصرين, فقرأت شعره قراءة نقدية راصداً رؤاه الشعرية, ومحللاً قدراته الفنية, والسمات التي يتحلى بها, ثم فتح نقاش في نهاية المحاضرة فكان من بين الأسئلة: أين صدى مايدور في سورية من أحداث مؤلمة في شعر هذا الشاعر؟
والحقيقة أنني شعرت بحرج كبير من هذا السؤال الذي يدل على وعي السائل برسالة الشعر والأدب, وما يجب أن يتناوله الشاعر أو الأديب في شعره وأدبه كي يكون شاعراً حقيقياً , وأديباً ذا رسالة في الحياة, وموقفاً يجعله يحظى بتقدير قُرَّائه وسامعيه, وأجبت بأن الشاعر أو الأديب لابد أن يكون ذا موقف واضح مما يجري في وطنه, وما يصيب شعبه من أوجاع , وآلام, وما يتعرض له الإنسان من ظلم وقهر, والأديب أو الشاعر الذي يُصم أذنيه, ويغمض عينيه عن النار المشتعلة حوله دون أن يبين موقفه, يفتقد المنزلة الرفيعة وتقدير الآخرين, والصمت الذي بدا من بعض الأدباء والشعراء حيال ما أصاب الأمة العربية في مؤامرة ( الربيع العربي) ، نزع عنهم صفة الشجاعة, وأخرجهم من دائرة الشعر الحقيقي , والأدب الحقيقي الذي يدرك دوره في الحياة, ويعي أن الكتابة الإبداعية موقف ورسالة , لأن الكلمة أقوى من الرصاصة, فتأثيرها يصل إلى الملايين في حين أن الرصاصة لاتؤثر إلا في شخص واحد.
والمستعمرون بمختلف أصنافهم وأجناسهم على مر العصور أدركوا هذه الحقيقة، فسجنوا كثيراً من الشعراء والأدباء لنشيد نظموه، أو مقال نشروه، أو خطبة خطبوها في حب الوطن، والدعوة للكفاح وطرد المستعمر من البلاد، أو علقوهم على أعواد المشانق كما حصل في عهد والي الشام (جمال السفاح) للاحتلال العثماني البغيض في كل من دمشق وبيروت عام 1916.
إن الشاعر الحقيقي أو الأديب الحقيقي هو الذي يكون له موقف فيثور على مايؤدي إلى ظلم الإنسان وقهره، ويتصدى لكل غاز معتدٍ أثيم ينال من أمن الوطن والأمة، وعليه أن يسمو على الجراح، ويكون بلسماً للمعذبين، ومناضلاً من أجل إنسانية الإنسان التي فقدها الكثيرون هذه الأيام، يقول الأديب (غسان كنفاني): ( الإنسان في نهاية المطاف قضية، ولكن يالها من قضية!!!)، ويقول الروائي العالمي الكبير (كازانتزاكي): (ربما كانت الكتابة لعباً في عصور أخرى أيام التوازن والانسجام، لكنها اليوم مهمة جسيمة، لم يعد الغرض منها تسلية العقول، بل الغرض منها تحريض الإنسان على بذل قصارى جهوده لتجاوز الوحش الكامن في أعماقه).
د. موفق السراج