تأبط نواياه ، واستل من جعبة إرادته سبيلاً إلى غيابات جب لا قرار له ، وسرى ..
في منحنيات الوصول افترش الضباب سريراً ، و توسد الصبر ، ومع كل جرة رجل كان أنين التراب يوجع قراره ، وهو في غي مكابرته لا يلوي على ندم ،
وفي منحنيات ومعارج الوصول استذكر كلمات أمه : لا مكان لقلبي حيث أنت ، جغرافية رحمي هي حدود من أحببت وآمنت ، وقالت السماء : لا ظل لك في الغربة ، فللظلال حدود كتلك السدود السود بين الأوطان ، وقالت البركة : لا حيلة لي على صحبتك فأنت هناك ستشتاقني كركن بيتكم الدافء..
وعند مرفأ الغربة طوى مركبه وأودعه جعبة التحدي ، وبدأ انطلاقته الواهمة .
عيناه تستجدي مارد قمقم لا وجود له إلا في خيالات من كتبوا و رحلوا منذ قرون ، فرك يديه عل دفئاً عابراً يسري في أوصال قراره ، أرخى العنان للحيلة فعساها تجترح لأجفانه رقاداً ، انبرى يطأ تراب البلاد الجديدة كأنما يتشبث بها من تداعيات ارتباكه الموحش ، خطواته العاثرة تحرز قهقات شيطان أغوى رؤى الغد لديه ، وبعد حين ، حين احتضنه الإعياء أسلم للريح دمعة ضياع ..
في البعيد البعيد حيث لا يغيب قمر الحب الذي أهدته له تلك الفتاة البسيطة الطيبة ، حيث لا وسائد من ضباب ، وحيث أمه التي تنثر رحمها في تضاريس ضيعته الوادعة رأى الله هناك ..
فر من وجع التردد إلى بهرجات المكان الجديد ، لكن البهرجات لم تبتسم له .. صال وجال و ترنح ،
رسم على شفتيه ابتسامة ولم يجد ما يلونه بها غير الأصفر الباهت .. اتكأ على نبضات قلبه وهو يستجدي روحاً لأحلامه ، فأخذت نبضاته تنوس كقنديل يلفظ أنفاس زيته..
و كمارد من حقيقة تعاظم و هو يهوي بمعول أبيه وجده على أشباح أحلامه الرمادية ..
كان مركبه في جعبة قراره فاستله من جديد وراح يخط على صحيفة طريقه صحوة أمنيات ، ويرسم لخطواته مساراً بلا منحنيات .. بوصلته تضاريس وطن هو أمه وسماء تظله، وفتاة بسيطة الملامح أبهى من كل من رأى ، وبركة لاجود ولا وجود لها إلا حيث الرغيف الذي يقيه برد الغربة ووحش التيه الرمادي.
حين بسط بصره في أرجاء حقيقة انتمائه كان لون الابتسامة الأصفر ينسل مفسحاً للأبيض مساحة الحضور، و الخطوات العاثرة تفر كقطع غيوم باغتتها الريح العاصفة ..
سامي محمود طه