لا أظن أحداً من المتعلمين يجهل أن أبا الطيب المتنبي قد لُقّب بـ ( مالئ الدنيا وشاغل الناس ) ، وذلك لما أحدثه في عصره من شهرة واسعة ، وصيت ذائع ، وتفوق على الشعراء دون أن يدانيه شاعر آخر حتى قال معتدَّاً بنفسه مفتخراً :
أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي
وأسمَعَتْ كلماتي مَنْ به صممُ
أنام ملء جفوني عن شواردها
ويسهر الخلْقُ جَرَّاها ويَختصمُ
وليس الحديث عن المتنبي، وشهرته، وشعره ،هو بيت القصيد في هذا المقال .. وليس هذا ما أبتغي الحديث عنه في مقالتي الأسبوعية هذه ( على ضفاف العاصي )، لأن شيئاً آخر في عصرنا الحاضر يصلح أن يطلق عليه هذا اللقب، وأعني الهاتف النقال الذي يعمل بلمس صاحبه .. فهو في كل مكان ، وكل واحد يحمله في يده، أو جيبه، أو حقيبته أينما حلَّ، وحيثما ارتحل ..وإن كان جالساً، وليس هناك ما يشغله، جعله أمام عينيه، وأخذ يبحث بإصبعه متأملاً وقارئاً ما يريد، أو كاتباً رسالة لمن يريد ، وهكذا، وهكذا صار هذا الهاتف النقال شغلنا الشاغل، ومالئاً فراغ من لايحسن ملء هذا الفراغ بما ينفع ويفيد .
الأب والأم والأبناء ساهرون واجمون لايتحدثون بشيء يهم أفراد الأسرة الواحدة ، ويضفي حميمية قوية تجعل أفرادها مترابطين برباط متين من الألفة والمودة .
الكل من أفراد الأسرة بيده هذا الهاتف، وعيناه مشدودتان إليه ولا يدري بمن حوله، ولايسمع حديث متحدث إن كان هناك من يتحدث .
والناشئة من أبنائنا يصرفون جلَّ وقتهم بما في هذا الجهاز من ألعاب، ونكت سخيفة ، واطلاع على أسرار الناس الذين بات الكثير منهم ينشرها على مواقع التواصل الاجتماعي، وفيها أشياء مخجلة ينبغي ألا تذاع بين الناس .. ناهيك عن رؤية مواقع لاتناسب أخلاقنا وعاداتنا وتقاليدنا .. وهي خطيرة على الشباب ، وقد تؤدي إلى أشياء لاتحمد عقباها في مجتمعاتنا المحافظة .. وسؤالي الآن : هل الأزمة في هذه التقنية الحديثة ، أم الأزمة في عدم استعمالنا لها الاستعمال المفيد ؟ والإجابة عن ذلك واضحة وبديهية ، وهي عدم استعمالنا لها الاستعمال النافع المفيد . فالتواصل السريع بين الناس، والاطلاع على ما يحدث في العالم من أحداث، وما يصدر من كتب ومجلات ، وما يُلقى من محاضرات، وما يكتشف من قبل العلماء والباحثين، كل ذلك هو النافع الذي ينبغي علينا أن نطلع عليه ، ونملأبه فراغنا، وأما الأشياء الأخرى غير المفيدة، فيجب علينا عدم إضاعة أوقاتنا بها . فقد وجدنا في هذا الكون لنعمل ونبني، ونقدم ما ينهض بالوطن والأمة ، ويخدم الإنسان . والعلم هو السبيل إلى التقدم والنهوض . وأما ضياع الوقت بما لايجدي شيئاً ، فهو الجهل بعينه . والحضارة العربية التي جعلت من العرب دولة قوية تمتد من الهند والصين شرقاً، وحتى المغرب والأندلس غرباً ، لم تقم إلا بفضل الازدهار العلمي، والحركة العلمية العظيمة التي كان خلفها علماؤنا الذين أفنوا أعمارهم في التحصيل العلمي ، وخلفوا لنا من الكتب ما يشهد لهم بالجدِّ، والدَّأب، والمثابرة، واستغلال الوقت بما ينفع ويفيد . وما نراه اليوم من تقدم الغرب وتفوقه ، سببه – من غير شك – الجِدّ في العمل ، والدأب ، والاهتمام بالقراءة ، واستغلال الوقت بالتحصيل العلمي المثمر .. وهذا كله سببه نهضة الأمم والشعوب ، فلنضع ذلك دائماً نصب أعيننا ، فلا ننساه أبداً ، فهو سر التقدم والنجاح .
د. موفق السراج