في عيادة طبيب الأسنان ….

يعاني سعيد صداعاً معنّداً منذ عدّة أيام، جرّب خلالها أنواعاً متعددة من مسكّنات الألم، غير أن تجريبه لم ينفس عنه كربته، مما زاد حيرته وجعل صداعه موضوع أحاديثه يدفع منها أيّ موضوع سواه مهما بلغت أهميته.
أشار عليه أحد أصدقائه الأخصّاء بمراجعة عيادة طبيب الأسنان، قياساً على حادثة مشابهة جرت مع واحد من أقربائه.
كابر سعيد في بداية الأمر ورفض فكرة زيارة الطبيب مسوغاً موقفه بأعذار شتّى، مخفياً رغبته في حفظ القليل المتبقي من راتبه الشهري لسدّ قسم من الحاجات المادية الملحّة لأسرته.
في وسط ازدحام تلك الفكر لاحت بمخيلته صورة لافتة أنيقة لطبيب أسنان يزينها اسم واحد من زملائه أيام الدراسة الثانوية، طالما فكّر في زيارته في غدوه ورواحه اليومي إلى دائرة عمله لتجديد علاقته به بعد أن غطتها أردية الزمن بضجيج عرباته المسافرة من محطة إلى محطة.
يبدو أنّ وقت الزيارة قد حان، فالزميل القديم لن يتنصل مما نسجته السنوات على مقاعد الدراسة من خيوط الزمالة والمودة ومما لا شكّ فيه أنه سيعفيه من دفع أجور المعاينة وتكاليف العلاج، وعندما وصل إلى هذه الفكرة هبّ واقفاً، فسأله صديقه عن بغيته، فأجابه بحزم: «إلى طبيب الأسنان»..
وجد صالة الانتظار تغصّ بالمراجعين فتجاوزهم إلى الممرضة الجالسة بثوبها الأبيض الأنيق خلف طاولة صغيرة تتزاحم عليها الأوراق، وبادرها بطلبه رؤية الطبيب في الحال، ولما علمت أنه يقصد المعاينة طلبت منه دفع الأجور المطلوبة وانتظار الدور.
شرع يشرح لها ما يربطه بالطبيب من علاقة قديمة، غير أنّ شرحه لم يشفع له عندها، فتريث قليلاً ثمّ أقدم على دفع النقود المطلوبة، مؤكداً لنفسه أنّ زميله القديم سيعيد له ما دفع فور رؤيته، معتذراً عن جهل الممرضة به، متصوراً صاحبه الطبيب وهو يلوم الممرضة على تسرعها الناجم عن جهلها العلاقة المتينة بين الزميلين القديمين، وفيما هو يقلب مثل تلك الصور في مخيلته سابحاً بعفوية تامة، فُتح الباب وأطلّ الطبيب منه لحظة خروج مريض من غرفته، فحاول إثارةَ انتباهه بمدّ رأسه وتحريكه يُمنة ويُسرة، ولما عاد الطبيب مغلقاً الباب خلف مريض جديد قال لنفسه: «إن زحمة العمل حالت دون تأكده من معرفتي».
استمر على هذه الحال حتّى أزِف موعد دخوله فدخل هاشاً باشاً، غير أن برودة استقبال زميله القديم أربكته قليلاً فحار في اختيار الجمل المعبرة عما يجيش في صدره، ووصلت صدمته بالموقف ذروتها عندما طلب منه الطبيب أجوراً وتكاليف إضافية لقاء بعض الصور الضرورية،التي بيّنت ضرورة العلاج بأدوية متنوعة، وبعد إنهائه معاينته وفحصه وتصوير أسنانه وتزويده بوصفة علاجه، استمهله قليلاً، وراح يسترجع معه ذكريات الدراسة الثانوية ومصائرَ زملائها، غير أن دخول الممرضة قطع ذلك الاسترجاع الجميل بتقديم مريض جديد حان دوره، فغادر الرجل العيادة وقد استبدل الوصفة بما كان يحمل من نقود، محدثاً نفسه عن تلك الذكريات الماضية التي فُتح بابها قبل قليل وهو يجد في توثبها متعة لم ينل من بريقها فراغُ جيبه من النقود.

د. راتب سكر

 

المزيد...
آخر الأخبار