أن يكون الشاعر بعد رحيله ذا جمهور واسع عريض كما كان في حياته ، فذلك دليل دامغ14 على عظمة الشاعرية ، وتميز الشاعر . وهذا ما تحقق لشاعر الياسمين نزار قباني الذي لم يخبُ ألق شعره ، ولم تخبُ جذوته بعد أكثر من عشرين عاماً على رحيله ، فما زال شعره هو الأكثر قراءة حتى يومنا هذا ، وما أجمل قول الشاعر دعبل الخزاعي :
يموت رديء الشعر من قبل أهله وجيده يحيا وإن مات قائله
إن الشاعر الحقيقي المبدع المتميز، قادر على جذب الجماهير إليه، والافتتان به وبشعره ، فيكون أشبه بقمة الجبل التي تراها العيون كلها ، والقمم قليلة إذا قيست بالسهول أو الروابي ….
وإن نسيت فلن أنسى ذلك اليوم الذي ألقى فيه بعض القصائد في مكتبة الأسد الوطنية بدمشق صيف عام 1988 ، ولم أتمكن من الدخول الى القاعة التي غصت بالحاضرين قبل ثلاث ساعات من بدء الأمسية ، وهم ينتظرون الشاعر بفارغ الصبر ، فبقيت والآلاف من الناس خارج المكتبة نستمع لهذا الشاعر عبر مكبرات الصوت ، وقد توقف السير تماماً في الشوارع التي شغلتها جماهير نزار.
منذ أيام الصبا كنا نقرأ لهذا الشاعر قصائده في المرأة ، فسحرنا بجرأته وإبداعه وحداثته في انتقاء المفردة والصورة التي لم يسبق إليها . وكان النقد الموجه إليه في المرأة لاذعاً فقالوا : لقد دخل نزار مخدع المرأة ولم يخرج منه .
ودافع نزار عن نفسه بأن المرأة نِصف المجتمع ، فهي أم أو أخت أو زوجة أو حبيبة ، وهي تعاني الكثير من القهر والاضطهاد في المجتمع العربي ، أفلا تستحق الحديث عنها ، وعن قضاياها ؟
واذا كان المجتمع محافظاً ويرى الحب ممنوعاً ، فإن نزاراً خرج عن القاعدة ورأى الحب بين المرأة والرجل رقياً وحضارة انسانية ، فاصطدم ومنذ بداياته بهذا المجتمع المحافظ فرمي بالعهر والفسق والالحاد . وقد عبر عن ألمه في كتاباته النثرية قائلاً :
(إنني شاعر مشى على حد الخنجر ، قابلاً جميع ما يتطلبه هذا المشي من ألم ونزيف. فموقف الناس من شعري لا وسط فيه ، حب حتى الموت ، أو كراهية حتى الموت ، وهذا الالتحام بين الحب والكراهية هو الذي منحني مجدي ، وأعطى أيامي نكهتها ، وجعل حياتي الشعرية كحياة القطط بسبعة أرواح ، فالضربات التي تلقيتها منذ بدأت في كتابة الشعر حتى اليوم كافية لتفتيت جبل …..)
وإنني أرى أن قول القائلين بأن نزاراً جعل المرأة قضيته ، و قول غير صحيح ، لأنه كتب في كثير من القضايا السياسية الوطنية ، والقومية كعدوان الخامس من حزيران عام 1967 ، وحرب تشرين التحريرية عام 1972….والقضية الفلسطينية…. .الخ وقضايا متنوعة كثورته على نظم الشعراء وتقليدهم ، ودعوته إلى تجديد الشعر …الخ ….
وسوى ذلك من القضايا التي لا يتسع مقال في صحيفة لتناولها …
ومما يُسَجل لهذا الشاعر الكبير أنه رفع من قدر الشعر ، فأخرجه من مرحلة الاستعطاء الى مرحلة الكبرياء…. رافضاً أن يكون الشاعر متزلفاً بريق ماء وجهه على أعتاب الآخرين ….
لقد رحل شاعر الياسمين يوم الخميس في 30/4/1998 في العاصمة البريطانية ، فأرسلت الحكومة السورية طائرة خاصة لنقل جثمانه إلى دمشق ، تكريماً لهذا الشاعر الكبير ، واندفعت الجماهير العريضة لتشارك في تشييعه ، وإلقاء نظرة الوداع الأخيرة عليه…. ونفدت وصيته فدفن في مقبرة الأهل في دمشق بجوار ابنه توفيق ، لأن دمشق كما قال في وصيته : (هي الرحم الذي علمني الشعر ، وعلمني الابداع ، وأهداني أبجدية الياسمين ….. هكذا يعود الطائر إلى عشه ، والطفل إلى صدر أمه )
د.موفق السراج