في أيامنا القديمة ، كان أسلوب الحياة شبه موحد ، وكانت الأمور التي نتعامل معها متشابهة .. ظاهرياً على الأقل !. متشابهة في الطعام ، والشراب ، متشابهة في الملبس ، والمسكن ، متشابهة حتى في وسائل النقل التي لابد منها في الوصول إلى الأماكن البعيدة …
كان الجميع يأكلون عند الغداء صنفاً واحداً ، والاختـلاف بين الواحد والآخر ؛ أن الأول قد يضع لحماً مع الخضار المطبوخة ، لا يتجاوز في كميته نصف أوقية ، بينما الثاني .. الأفضل حالاً .. قد يبسط يده ، ويضع أوقية كاملة ، أما الثالث .. فقد تسمح له ظروفه المادية بأن يضع أوقيتين دفعة واحدة !.
وكان الجميع يسكنون في حي واحد ، وبيوتهم على صف واحـد ، أبوابهم متشابهة ، ونوافذهم متماثلة ، وجدرانهم تتقارب في الارتفاع .. لكنك عندما تدخل إلى تلك البيوت ، قد تجد وراء الباب غرفة واحدة ، أو غرفتين ، وأحياناً خمس أو ست غرف ، بل أحياناً تجد قصراً منيفاً بكل مواصفاته ، بكل ردهاته وقاعاته وصالوناته !.
والجميع كانوا يرتدون ثياباً موحدة ، المعاطف الثقيلة والكنزات الصوفية في فصل الشتاء ، والقمصان الرقيقة والأردية الخفيفة في فصل الصيف ، ولكن الخلاف يأتي في نوع القماش ، وأسلوب ارتدائه !.
والجميع كانوا ينتقلون من مكان إلى مكان ، عـبر وسائط النقل الداخلي ، وكـان ( الباص ) يجمع الجميع : الصغار ، والكبار ، الأغنياء ، والفقراء ، ونادراً جداً ما تجد شخصاً يمتلك سيارة خاصة يستخدمها في تنقلاته .
هكذا كانوا يعيشون ، ولم يكن أحد منهم يشعر بالفارق الكبير ، الذي يفصله عن جاره في الحي ، أو رفيقه في العمل ، أو زميله في المدرسة .
ولم يكن أحد ينظر إلى مَنْ يفوقه مالاً ويتجاوزه غنى ، ينظر إليه نظرات حسد وكراهية ، فالمجتمع متواصل ، متماسك ، الكلّ يسأل عن الكلّ ، والكلّ يراعي وضع الكلّ ، والكلّ يلبي نداءات الكلّ .
هذه المعادلة الاجتماعية الجميلة ، تغيرت ، وتبدلت ، مع الأسف الشديد ، ولم نعد
نراها في مجتمعاتنا الحديثة ، التي جرفتها تيارات الطمع ، وأذكتها نوازع الأنانية ، وسحقتها وطأة المادة .
الكلّ يريد أن يصبح مثل الكلّ ، والكلّ يتعامى عن رؤية أحوال الكلّ ، والكلّ لا يراعي أمور ومصالح الكل !.
فهل هذا الذي نعيشه وجه من وجـوه الحضارة الحديثة ، أم أن علينا أن نرفضه ونعود إلى الوراء ، حتى وإن اتهمونا بالجمود والتخلف !.
• والأمر لا يتوقف عند هذا الحد ، ففي حياتنا الدراسية السابقة ، كانت الأمور متشابهة أيضاً …
فالدفتر هو الدفتر .. يبدأ غلافه بصورة ذلك الفتى الذي يحمل شعلة العلْم ، وينتهي بجدول الضرب الذي على الكبير والصغير أن يحمله .
والقلم هو القلم .. بغض النظر عن طريقة إمداده بالحبر الأزرق السائل ، سواء أكانت بالضغط ، أو بالسحب ، أو بتحريك ساعد جانبي صغير .
والتجليد هو التجليد ، والأتكيت هو الأتكيت ، والنشافة هي النشافة ، حتى الصدرية هي الصدرية ، ذات اللون الأسود القاتـم ، التي تبقى سنوات مـع التلميذ من دون تغيير أو تبديل .
الآن .. اختلف كل شيء أيضاً !.
كل معلم يطلب من طلابه طلبات ما أنزل الله بها من سلطان .
الأقلام ذات ماركة عالمية ، والدفاتر ذات أحجام وأشكال متطورة ، والمحفظات لها أنموذج فاخر يتجدد بين زمن وآخر ، والألوان ذات منشأ أجنبي لا يمكن أن تحلّ مكانها ألوان وطنية ، والمسطرة والمبراة والممحاة واللباس والحذاء يجب أن توافق توجّه ومزاج المعلم الذي يدرّس المادة !..
وربّ الأسرة المسكين ، يركض وأولاده من مكان إلى مكان ، ومن مكتبة إلى مكتبة ، كي يحقق رغبة الأستاذ ، والويل كل الويل ، إن قصّر في هذا الأمر أو ذاك ، فالعقوبة في انتظار فلذات كبده !.
ولا ندري ، ماذا سيحلّ بصاحب العيال ، بعد أن يصبح خالي الوفاض ، وقد دفع ما فوقه وما تحته تلبية لأوامر المدرسة !!.
• فهل التشابه هو الأفضل .. أم العكس ؟.
موفق أبو طوق