في الأوقات العصيبة،واللحظات الفاصلة الحالكة،يغدو الإحساس المرهف وبالا على صاحبه،بل طعنة قاتلة لا محالة،وخاصة في شاعر حقيقي اجتمع في ذاته قلق الوجود البشري،وهم الإنسان العربي في الإنبعاث،وخلاصه من واقع مأزوم فيه كل شيء إلا بارقة أمل تومض في نهر الرماد الكثيف،والمتراكم عبر عصور العتمة والإنسحاق العربي الموجع:
رب ماذا؟هل تعود المعجزات
باسم ما أحرقت من نفسي بنفسي
لأصفي وجه تاريخي وأمسي
باسم هذا الصبح في صنين
والعتمة خلفي،وجحيم الذكريات
ليحل الخصب،ولتجر الينابيع
ويمضي الخضر في إثر الغزاة
هذا هو الشاعر الدكتور خليل حاوي أستاذ الأدب العربي في الجامعة اللبنانية الذي ما فتىء_طوال عمره_يحمل على كاهليه هم النهضة العربية،وانبعاث العرب ليكونوا اليوم _كما كانوا بالأمس_ سادة الدنيا علما وحضارة ونورا.
لقد مزق الشاعر هذا الهم،فتفجر يأسا قاتلا حين رأى (بيروت) تسقط بيد الغزاة الصهاينة في شهر حزيران عام 1982،فلم يكن له إلا أصابعه التي أطلقت النار على رأسه المتوهج أبدا من بندقية صيده.رصاصة واحدة أطلقها ليلا،في منزله المطل على بحر بيروت،فوق مصرف للمياه لئلا يزعج أمه بشطف دمه النازف،فذهب بصمت في ضوضاء وقع الكارثة الرهيبة،وجلبة علوج الغزاة.
عجيب أمرك أيها الشاعر:إحساس مرهف في حياتك، وشفافية لا تضاهى تجذرت في نفسك لحظة اتخذت قرارك بالموت،في زمن لا وجود فيه _ عندك _ إلا للموت،واليأس من كل بشارة تؤذن بانبلاج ضوء الخلاص من _ دوامة الحمى ومن دولاب نار _ أي من الحياة المأسوية ذاتها التي يحياها الجيل العربي الذي يعاني إرهاصات خير منها الموت :
عمق الحفرة يا حفار
عمقها لقاع لاقرار
يرتمي خلف مدار الشمس ليلا من رماد..
وبقايا نجمة مدفونة خلف المدار
لاصدى يرشح من دوامة الحمى،ومن دولاب نار..
لا أبكيك أيها الشاعر،ولكن أبكي فيك شاعرا حقيقيا كان يحمل هما كبيرا من هموم عصرنا الحضاري،فاضطلع بهم المعاناة الإنسانية،وهم الثورة الشكلية التعبيرية الحديثة القادرة على استيعاب تجارب العصر المعقدة،فكنت فذا لأنك تبنيت قضية عظيمة،ونجحت بامتلاك وسائل إبداعية جديدة تناسب الواقع الجديد،وتعبر عنه خير تعبير.
في ذكرى موتك المؤلم يحسن بنا أن نتعلم كيف نجن بحب الوطن والعروبة،ونعشق وحدة الأمة،متلهفين لنهضة حقيقية تبعث فينا القوة والعزة والنماء.
في ذكرى موتك المؤلم تعلمنا كيف نجبل بالجرأة ونشرب الشجاعة،ونطحن الخوف،ونتعمد بوله الوطن العظيم والأمة العتيدة ،فنتهافت على حبهما والإخلاص لهما تهافت الفراش على الزهر والندى،ولكن كم كنت أتمنى عليك أيها الشاعر ألا يتسلل اليأس إلى فؤادك ليعمر قلبك الإيمان بالنصر،والتفاؤل بدحر الغزاة الصهاينة الذين جاسوا أرض لبنان الحبيب..
فلا يصل بك اليأس القاتل إلى ما وصلت إليه..
كنت أتمنى عليك أن تشهد خذلان الصهاينة ودحرهم من جنوب لبنان لتكتحل عيناك ،بجمال النصر المؤزر على عدو لا يفهم إلا لغة القوة…والأمل كبير بدحر هذا العدو من الأرض العربية المغتصبة …وما أجمل قول الشاعر:
لا تقنطي إن رأيت الكأس فارغة.
يوما ففي كل عام يعصر العنب
وقول إيليا أبي ماضي:
قل لمن يبصر الضباب كثيفا. إن تحت الضباب فجرا نقيا
الدكتور موفق السراج