ما يحز في النفس ويبعث فيها الأسى أن شطرا عظيما من أدب هذه الأيام أصبح مهنة من لا مهنة له،وكأنه مطية سهلة ومركب وثير لمن أراد الركوب،فهذا يريد أن ينشر باكورة أعماله الشعرية وهو لا يدري،في جل قصائده،أين يضع بعض الكلمات أيدعها منفردة أم يضمها إلى أخواتها في أحد الأشطر؟…وذاك نشر ديوانه الأول ،ولم تستقم قناته بعد ،فرأى النور ممتلئا بالأغلاط النحوية واللغوية.وثالث سدت في وجهه منافذ الرزق،ففكر أن يكتب للصحافة مقالات مأجورة،فخرجت هزيلة عجافا لا تغني ولا تسمن من جوع…و…و…وآخر ركب موجة تأليف الكتب فلم يكن عنده منهج البحث العلمي واكتفى بجمع المعلومات جمعا مشوها دون أن يشير للمصادر والمراجع وسمى نفسه كاتبا وباحثا ومؤلفا ،حتى قيل إن كتبه لا تساوي ثمن الورق الذي طبعت عليه ،وقد قيل لأبي زكريا الفراء ما رأيك بكتاب (المجاز) لأبي عبيدة التيمي ؟فقال :لو حمل إلي أبو عبيدة لضربته عشرين في كتاب المجاز… إن هذه المحاولات جميعا،وإن تعددت أشكالها،فإن دوافعها لا تتعدى الاثنين:الشهرة والتكسب. فأما أولئك الذين ابتغوا الشهرة وحب الظهور قبل أن يشتد عودهم ويقوى ساعدهم فما إخالهم جنوا غير التشهير بأنفسهم لان تلك الآثار الغثة شواهد عليهم لا لهم،ولن يغفر لأصحابها نزق الشباب وطموحه ما بين غمضة عين والتفاتتها،إلى تسلم سنام مجد أدبي،فالكلمة مسؤولية في الدرجة الأولى،والأدب مركب صعب لا يستطيع قيادته إلا من عرف أسراره وخفاياه،وبالتالي لن يكون مصير محاولاتهم غير أن تذهب أدراج الرياح لأن (الزبد يذهب جفاء،وما ينفع الناس يمكث في الأرض)،وما على هؤلاء إلا أن يعكفوا على اللغة الثرة والتراث الحافل والأدب المعاصر ومن ثم يستأنوا في إخراج أي أثر إلى حيز الوجود،فما زلت أقر مع أبي منصور الثعالبي رحمه الله أن (أول ما يبدو من ضعف ابن آدم أنه لا يكتب كتابا فيبيت عنده ليلة إلا أحب في غدها أن يزيد فيه أو ينقص منه،هذا في ليلة واحدة فكيف في سنين عدة؟) وأما الفريق الآخر الذي نشد التكسب بالكلمة،فلن يجني منها من الربح بقدر الخسارة،لأن الكلمة دوما ضنينة بأهلها،فما أدراك بالكلمة الخاوية التي تعبث بعقول النشء،وتعود عليهم بأفدح الأضرار؟..وما يطلب من هذا الفريق_إضافة إلى ما ذكر _ أن يكف عن تلك المحاولات العابثة وأن يدع التكسب بالكلمة،ويكتب فقط عندما يجد ما يستحق الكتابة حتى يقول ما يغني الفكر ويمتع النفس ويعبر بصدق وموضوعية عن هموم الإنسان المعاصر من خلال رؤيا معاصرة إبداعية،وإلا فليبحث له عن مهنة أخرى توفر له مبتغاه،كي لا يعود من الغنيمة بالإياب.
د موافق السراج