على ضفاف العاصي: لو كان الأمر في يدي

 
قد يكون من نافلة القول أن نذكر بأن أي عمل ينفذ من دون خطة أو هدف مرسوم سينتهي إلى الزوال والتلاشي بعد حين   إن لم تكن بدايته الفشل الذريع أو موته قبل أن يولد…ولعل أولئك الذين ينادون بنظرية الفن للفن ممن ستلفظهم_إن لم تكن لفظتهم_مجتمعاتهم أمام تعاظم المد الجماهيري واتساع مداه،لأن الفن بلا وظيفة اجتماعية مرتبطة بالواقع ومشكلات الإنسان اشبه بشجرة بلا جذور تقتلعها أضعف ريح…وقد أكد الكاتب الروسي ميخائيل شولوخوف _في أثناء استلامه جائزة نوبل _ على هذه الوظيفة قائلا:
إنني أنتمي إلى أولئك الكتاب الذين يرون أن الشرف الاسمى بالنسبة لهم والحرية الاسمى تكمنان في تقديم كل الإمكانات من أجل أن يخدم الأديب بقلمه الشعب الكادح.
إنني أريد لكتبي أن تساعد الناس كي يصبحوا أحسن وأصفى روحيا وأن توقظ فيهم الحب للإنسان وتبعث فيهم الطموح نحو النضال في سبيل القيمة الإنسانية وتقدم البشرية    _ومن قبله قال كازانتزاكي_شيء واحد يعنيني،يسعدني أو يشقيني،هو الإنسان _.
ومن هذا المنطلق كانت الواقعية الاشتراكية التي تجسد روح العصر ومعاناة الانسان ونشدان العدالة والحرية والمساواة في أدب ينبع من ذات الأديب وعالمه الداخلي _لا من الخارج_ وينبض بجماليات الفن وسحره وتوهجه وقوة تأثيره…
لكن،ومن أسف،أن كثيرا من أدبائنا أو شعرائنا تحديدا رأوا هذا التيار سائدا فركبوا الموجة ليكتبوا شعرا مصابا بالنمطية، وفاقدا أي شيء له مساس بالفن وجماليته وروعته…
‌فإذا بنا نجد في تلك الأشعار ألفاظا متكررة ،عند هذا أو ذاك، كالبلوريتاريا_والمناجل،والفؤوس،والدم…بل ان بعضهم كاد يسمعنا قرقعة البراغي والمفاتيح والمفكات..ويجعلنا نشم روائح الزيوت والشحوم…ظنا منه بأنه،في ذلك، يكون أكثر واقعية واقناعا باخلاصه لقضايا الإنسان،على الرغم من سقوطه في الابتذال ،وابتعاده عن روح الفن وشفافيته، واستخدامه ألفاظا لا صلة لها البتة بالواقع الذي يعيش،هذه الأمور كانت نتيجة حتمية للافتعال واستيراد التجربة الشعرية من خارج الذات….وكثر مثل هذا الشعر كثرة مفرطة ، وكثر اللوك والاجترار،وصوغ كل واحد على منوال الآخر، وعلى الأخص ما يتعلق باللفظة أو الألفاظ الدارجة في حينها حتى تنطفىء ويذهب بريقها،مما حدا روجيه غارودي إلى إطلاق صرخته المدوية في كتابه     _واقعية بلا ضفاف_ احتجاجا على أولئك المقلدين المستوردين أدبهم من الآخرين ليصوغوه بشكل آلي فينتج عن تلك الصياغة جسد لا روح فيه…
‌إن كل فن لا يحتوي جماليات الفن وخصوصياته لا يستحق أن يسمى فنا، وأحرى بصاحبه أن يهجره إلى عمل كتابي آخر خارج دائرة الفن .
‌والواقعية الاشتراكية لا تعني أبدا التعبير عن قضايا الإنسان ومشكلاته بقوالب جامدة،ومستوردة لا نبض فيها ولا حياة…
بل يجب أن يصاحبها سحر الفن وطلاوته وروعته…هذا الذي يمكن النفوس من ازدرادها..ولعل الشاعرة العالمية ريما كازاكوفا لم تبتعد عن هذا المقصد حين قالت في آخر حديث معها:الشعر القوي فعلا هو الشعر الذي يجمع بين الروح الفردية الأصيلة للشعور وبين الأهمية الاجتماعية الكبيرة لمضمون الشعر.
وكلما كانت القصيدة تمس عددا أكبر من الناس،كانت أقوى وأعظم،بيد أن أهمية الموضوع المعالج لا تكفي وحدها.
وقد قال الشاعر  ميخائيل كوشتينسكي مات في الحرب الثانية عام 1940 في إحدى قصائده:
لو كان الأمر بيدي لأصدرت مرسوما من مجلس مفوضي الشعب ومنعت الشعراء من كتابة شعر وطني مبتذل
_إن أهمية الموضوع المطروق ليست كافية وحدها،وهي لا تسوغ نظم الشعر الغث المبتذل.ومهما كان الموضوع مهما تكون النتيجة الإبداعية صفرا إذا لم يعالجه شاعر أصيل موهوب بروح إبداعية.
د موفق السراج
المزيد...
آخر الأخبار