سنوات الحرب العجاف المليئة بالمآسي وبالقهر ..بالفقد والغربة ..سنوات مكدسة بالنحيب وبالبكاء وبالعويل بالتوابيت وبالزغاريد وبالمناديل البيضاء السابحة فوق رؤوس أمهات ثكالى والمعرشة على أياديهن الملعقة في سماء التهاليل بقدوم نعوش أبنائهن ..أمهات وآباء وأخوات اتشحوا السواد وبالدموع .. سنوات بدّلت مفردات حياتنا التي ألفناها أو فطرنا عليها من فرح وسفر واحتفالات وكرنفالات ومشاريع وأسواق تضج بالناس وبالحياة..مفردات حياتنا الباذخة الطافحة بالأحلام وبالأفكار والرؤى التي من شانها تحقيق نقلة تجاه عوالم من رخاء وسلام سنوات حرب بدّلت مفرداتنا تلك إلى مفردات مغايرة تماما من فقد وجنازات وتوابيت وخطف وسلب ونهب وتعفيش وفساد وإفساد وتشبيح .. مفردات مغايرة تماما لما كنا عليه فآل هاجسنا البحث الشاق والمضني عن الرغيف ولقمة العيش المخضبة لا بل المضرجة بالقهر وبالقلق وبالدموع حرب دفعتنا جميعا لممارسة أي الأعمال التي من شانها تأمين لقمة عيش لنا ولأبنائنا الذين ضاعت ملامح آمالهم وأحلامهم في بناء مستقبل يليق بطاقاتهم فكانت الحرب ..وكنا وبرغم التعب والإجهاد والسعي في تأمينها كنا نعمل راضين مرضين إذ الغاية والهدف من ذلك هو التمسك بحقنا في الأرض وفي الحياة ..التمسك بسوريتنا واحدة موحدة..بالرغيف وأبناء الرغيف ونجحنا إلى حد كبير رغم كل ما تعرصنا له على أيدي أعداء الحياة في الخارج والداخل نجحنا في إثبات أننا أبناء سورية أبناء المطر والقمح والشمس .. حرب دفعتنا لممارسة غير عمل لضمان لقمة عيش كريمة وما الضير لطالما على أرضنا وبين أبناء جلدتنا ولغاية نبيلة هي كما قلنا تامين بدهيات يومنا..من غطاء ودواء ورداء ..فعملت أنا كغيري من السوريين أعمالا شتى بدءا بالتحطيب ( جمع الحطب) لدرء برد شتاء مرير وليس انتهاء بتقطيف أوراق ( الملوخية) وتجفيفها وبيعها مرورا بأعمال نجارة الباتون ومن ثم تكسير الجوز وتقشيره وأيضا صناعة رب البندور – ورب الرمان ..الخ ولكن من الأعمال التي مارستها وأضافت لي كغيرها من الأعمال هي عملي محاسبا لمطعم ورأيت حينها ما رأيت من أناس بجيوب مكدسة بالعهر وبالقهقهات بمبالغ لا تعد فتطلب وتأخذ ماهب ودب من مواد لم نسمع بها من قبل ..نعم رأيت ورأيت أيضا أناساً بسطاء بؤساء يدخلون المطعم بقلوب مرتجفة واجفة يسألون عن مادة لمريض ممدد في فيء جدار بيت قدم ما قدم من شهداء ومحاربين فترتجف أناملهم حين يعلمون بسعرها وتغص قلوبهم ..فأرتجف معهم وأغص وأبكي .. حرب قلبت حياتنا ..وتركت ما تركته من ندوب وبثور على قسمات أيامنا, و ما نعيشه اليوم لا سيما في الأشهر القلية الماضية هي حرب من نوع آخر أشد رعبا وبؤسا من حروب المدرعات والصواريخ .. والأطراف المشاركة فيها من الداخل والخارج هي منعدمة الإنسانية والقيم والأخلاق أطرافها هم أعداء الحياة والحق والخير وغايتهم الوحيدة هي سحب حقنا في الحياة أعداء الخارج الذين تحسسوا هزيمتهم فأوكلوا لزبانيتهم في الداخل أن احكموا الخناق جيدا وحاصروا رغيفهم و..الخ نعم إنهم ينفذون بكل صفاقة وسفالة ما طلب منهم تعبنا وسنتعب كثيرا ولكن كنا وسنبقى ما بقي الفرات والبحر والغمام سنهزمهم برغيفنا بحبة قمحنا وبحبات عرق كدستها الحياة فوق جبين فلاحنا ..بأناشيد أطفالنا
عباس حيروقة