من مرافىء الذاكرة : هُنا دمشق ؟؟

على طاولة خشبيّة بالكاد تمسك نفسها يرتاح راديو صغير يعمل بالبطاريات الجافة ،كان هذا الراديو كلّ عالمنا ،وهو وسيلة الاتصال الوحيدة مع العالم الخارجي ،كنا نتحلّق حوله بشغف المحب العاشق …الوالد واخوتي الصغار ينصتون ،لا كلام ،لا همس ،كلنا آذان صاغيّة ..يسود الصمت ارجاء الغرفة (الأوضة ) المبنية من لبن التراب المسقوفة بالخشب والقصب …نتابع ما يُبث من برامج ممتعة ومسلية …تبدأ رحلتنا اليومية مع الصباح وحتى المساء…
لم يكن في بيتنا ساعة توقيت سواء يدوية أو جدارية ،وهذا ينسحب على أغلبية بيوت قريتنا …كان هذا قبل قرابة نصف قرن ،وعلينا ضبط كل مفاصل حياتنا من الاستيقاظ و الذهاب يومياً إلى المدرسة مروراً بموعد اللعب والنوم ، لذلك وجدنا في الراديو غايتنا ،وعودنا انفسنا على ذلك ، نبدأ بتجهيز انفسنا وارتداء المريول الرمادي وتناول الإفطار على وقع برنامج مرحباً يا صباح والذي يستمر من الساعة السابعة إلا ربع ،حتى السابعة والربع حيث موعد نشرة الأخبار الرئيسية …هنا دمشق إذاعة الجمهورية العربية السورية نكون على أهبة الاستعداد للانطلاق إلى المدرسة عبر الطريق الصاعد حيث نجد أقراننا وقد يمموا وجوههم شطر ذاك البناء الأزرق الذي وجدنا فيه العلم والفائدة والمتعة …
مرحباً يا صباح برنامج صباحي خفيف كان يُبث عبر إذاعة دمشق البرنامج العام وهي المحطة الوطنية الوحيدة ، معه امضينا أجمل وأبهى اللحظات ..فيه اغاني فيروز رفيقة الصباحات الجميلة ،إضافة إلى الحكم والأمثال والإرشادات والنصائح التي تهم المستمع …
هذا البرنامج ما زال مستمرا حتى الآن وله جمهوره الواسع ،وتعاقب على إعداده وتقديمه عدد كبير من المذيعين والإعلاميين مثل : نجاة الجنب،فريال احمد ،مخلص الورار و….
هنا دمشق يعني انك تضبط إيقاع الحياة بكل تفاصيلها وتشعباتها على وقع الكلمة الهادفة والأغنية الجميلة العذبة كلمة ولحناً وأداء ، لا أذكر أنني تأخرت يوماً عن المدرسة والتي يبدأ فيها الدوام الساعة السابعة والنصف وكان هناك عودة في فترة ما بعد الظهر لثلاثة أيام هي السبت والاثنين والأربعاء وتتضمن حصصاً ترفيهية وأنشطة متنوعة رياضية وفنية وثقافية …
هكذا كنا وكانت حياتنا سماتها البساطة والعفوية والقلوب الدافئة العامرة بالحب والتسامح والسعي الحثيث لتحقيق الأهداف التي نراها في كل صباح مع إشراقة الشمس مبشّرة بولادة يوم جديد .
*حبيب الإبراهيم

المزيد...
آخر الأخبار