ما ان ينثر الضياء خيوطه الأولى على بيوت قريتنا الطينية حتى يكون أبي في بهو الدار وهو يعد العدّة لنهار طويل على البيدر الذي يقع غرب القرية …يتداخل صوته مع صوت والدتي التي توقظنا بحنو …لكنها لا بد ان توقظنا في نهاية المطاف …ينتظرنا عمل مضن ٍ شاق ولا بد من انجازه …والدتي تجهز الزوادة وجرّة الماء، في حين يردفنا الوالد على الدابة التي تنطلق بنا مسرعة ً إلى البيدر …. الشمس بدات تستيقظ من خدرها ونحن بدانا الدرس على الحيلين، والدي يفرش القش بمدراة الحديد ونحن نبدا نهارنا بالدوران وتنعيم القش ليتحول إلى تبن ناعم وقمح او شعير … لم يكن هناك استراحة إلا على الطعام، وسط الظهيرة تشتد الحرارة ولا يوجد ما يقي اجسادنا الطريّة، رؤوسنا مكشوفة، لا طاقية …لا شماخ …لا .. كنا نتأقلم مع هذا الطقس اللاهب، نتناوب في ركوب الحيلين انا وشقيقي محمد. والذي يكبرني بعامين ،لا نشعر بالملل او التعب …كنا طاقة من الحيوية والنشاط …في فترة التبديل كنا نبحث عن الأعشاش، العصافير الصغيرة، نضع علامة مميزة من أجل الرجوع إليها ومراقبة العصافير الصغيرة حتى تكبر. … ثمة فرح غامر لا يغادرنا ونحن نمضي اياماً تمتد أحياناً شهراً كاملاً في أعمال البيدر من درس ٍ وتنعيمٍ وتذرية ٍ وكانت في أغلب الأحيان تتم ليلاً بانتظار هبوب نسمات خفيفة لتساعد في فصل الحب عن التبن … ثم تقوم الوالدة بعملية الصنط والغربلة وتنظيف المحصول استعداداً لنقله إلى البيت ، وتشجيعاً لنا ولجهودنا في أعمال. البيدر كانت الوالدة تعطينا (شريّة) وهي بضع كيلوغرامات من القمح أو الشعير تضعها في أسفل (الكلابية) التي نرتديها لننطلق وبفرح صوب الدكان لشراء الحلويات والألعاب … بالرغم من كلّ الصعوبات في أعمال البيدر ، لكن ثمة فرح كان يدغدغ قلوبنا الفتيّة ، ويأخذنا إلى مواطن السحر والجمال …جمال القرية وهي تتزنر ببيادرها معلنةً بدء موسم الجني والعطاء .. لقد عززت هذه الأعمال فينا الثقة بالنفس والصبر وتحمل مشاق الحياة …والعمل بدأب لجني محاصيلٍ اخذت من وقتنا وجهدنا الكثير من الكدّ والعمل … إنها ذاكرتنا ..ذاكرة مفعمة بالحب والحنين ..ذاكرة مسيّجة بالطيبة والبراءة ومحبة الناس وتعزيز ثقافة التعاون والتي كانت من الأبجديات الأولى لمواسم الحصاد والبيادر … إنها ذاكرة البيادر والعصافير …ذاكرة لا تشيخ ابداً،ذاكرة نقيّة متوهجة … ذاكرة الطفولة واليفاعة، ذاكرة نابضة بالحب والأمل والحياة ….
*حبيب الإبراهيم