لأننا أبناء الحياة وعشّاقها لا بل وصنّاعها أيضا كتبنا وما زلنا وسنبقى نكتب عن أولئك الذين صعدوا نحو السماء وهم باسمون ..صعدوا تاركين خلفهم الأمهات والأبناء والأهل والأصدقاء في حسرة وشوق وفقد وغربة واغتراب ..
ولأنه الموت بكامل لغزه المحيّر وجبروته وقساوته سنبقى نطرح وبالفم الملآن أسئلة الحياة الأهم ..
نعم ثمة أخوة لنا وأصدقاء وأقارب وجيران وأهل رحلوا خلال سنوات الحرب العجاف ..السنوات التي حولتنا نحن السوريون إلى روّاد مقابر ومستشفيات وموانىء ومطارات على حواف الوطن إلى أن ألفتنا فأصبحنا من مفرداتها اليومية ..
لن أتحدّث عن تلك العذابات التي سكنتنا وعششت في خافقات القلوب ولاعن ما ضحاياها ..ولكن ما يمكن أن أقوله هنا ومن باب المجاز:
كم قاهر أنت أيها الموت ..كم ظالم أنت أيها الموت
أيها الموت ألا من أخوة لك أو أصدقاء ..ألا أبناء لك ..ألا من أمهات لديكم ؟؟!!
يا ألله كم علينا أن نتدرّب على استيعاب ما حدث وما يحدث حتى نستطيع فك بعض رموز الجنازات المتراكمة عند مداخل وبوابات قرانا ومدننا ؟؟!!
نعم لأننا أبناء الحياة وصناعها علينا أن نتفكر ملياً بأسئلة الموت ..أسئلة الحياة ..أسئلة الوطن
كل هذا الكم الكبير من القهر والدموع والعويل المرّ يمكن أن يصلك وأنت تجالس أم شهداء ثلاثة مثلاً وهي تمسح براحتها شاهدات قبورهم وترتل بعد مواويل فقد وآيات الحنين ..تحدّثك عن ما يحبّ كل منهم وما كانت آمانيهم وأحلامهم ..تحدِّثك عن آخر اتصال مع ولدها الكبير وماذا كان يعدها من هدايا بعيد الأم ..
تحدِّثك عن والدهم وكيف كل مساء يحدثهم ويحكي لهم أخبار حارتهم وهم شاخصون به من على صورة في صدر بيت حنون .. يضحك ..يبكي ..يقول لولده الثالث الشهيد أن ارجع ..تعال ودخن متى وأين تشاء وصاحب ما تشاء حتى ولو كانوا رفاق سوء ..أن تعال لم يعد الأهم إلا أن تكون هنا بيننا في بيتك في غرفتك على سريرك الذي اشتاق لفوضى حياتك..
يا الله ..يا الله أين نحن ..وانتم من كل هذا النزيف المديد ..
الموت لك أيتها الحرب ..الموت لك أيها الموت أما آن تحنُّ ..تصرخ أم ثكلى ..
وحين تجالس رجلا من رجالات الحرب وقد أقعدته وحولته إلى طفل حالم ..حين يحدّثك وهو دامع عن تلك اللحظات من الحصار التي عاشها ورفاقه وكيف كان رغيف الخبز حلما وقطرات الماء ..إلى أن شاء الله وكان ..كم تشعر بأن الوطن يستحق كل هذا وأكثر ,ولكن ..!!!!
وحين ترى وتسمع عن كل هذا الخراب ..الدمار الذي أحدثته تلك الحرب
..عن أرقام الشهداء والمفقودين والمهجرين ..عن أرقام خسارتنا الاقتصادية الأخرى نتيجة انعدام الموارد لا بل نتيجة سرقتها وتخريبها ونهبها وحرقها على مرأى من أعين السوري ..تُدرك لماذا تحوّل السوري إلى رقم في طوابير لا تنتهي..
الحرب التي لا بدّ من أنها ستكون درسا لنا جميعا كسوريين ..
الحرب التي من البداهة إن تجعلنا نعيد مرة أخرى طرح أسئلة الوطن الكبرى ..أسئلة الانتماء ..أسئلة الوجود ..أسئلة الحياة وان نعيد صياغة الإجابة بمفردات المحبة والإخاء فنحن أبناء هذه البقعة الجغرافية الطافحة بالجمال لا أمامنا سوى البناء ..سوى المحبة ..سوى الحياة
عباس حيروقة