تؤلمني الكتابة حين تغدو التفافاً على اللغة وهروباً من عمق المعاناة واجتراع خبايا الذات , أوحين تصبح محاولة للمواربة وسعياً وراء الغوص من أجل الالتفاف على الحقائق والكشف عنها , ولا تدرك خطورة نتائجها ولا تسمَي الأشياء بأسمائها وتحاول تجنَب ذلك في افتقارها الى الصدق والجرأة معاً .
فالكاتب الحق يحاول في كتابته الاقتراب من الحقيقة لإعادة صياغة التجربة الانسانية واستمداد العبر منها . فالكتابة يجب أن تخضع الى الفكر والاحساس كما الأدب يحتاج الى جمال الصياغة وأصالة الموضوع , فالكاتب الحقيقي هو من يثير فينا احساساً حقيقياً فيه التفاتة الى ماض عرفناه أو تلهَفاً الى مستقبل نوَد أن نعرفه أو مزيجاً منهما.
بعض من الكتاب يفهمون ان الكتابة والادب تركيب الفاظ وصناعة انشاء فهم ليسوا مسموعي الكلمة محترمي الرأي , وترى نتاجهم كأنها قوالب محفوظة فهي تُنقل في كل مقام وتزًج بها في كل رسالة فلا يعتروها التصرَف والتبديل الا عند الضيق فتسمعها في خطب المنابر وكأن التحنيط قد أصابها في قوالبها والجمود في نصَها بل وحتى في لهجة الكاتب ووحدة موضوعاتها وكأنها كأسطوانة مشروخة فهي تُعاد سنة بعد سنة تُقلب على آلة حاكية تماما لا تفقه ما تقول وما تسمع .
الكاتب انسان قبل ان يكون حامل قلم وصانع كلام وفضيلته في ذلك فضيلة نفس شاعرة مدركة لا فضيلة لسان و عبارة , والاعجاب بالكاتب لصفة تأنسها في نفسه وعقله ثم تعجب بأسلوبه . فكتابة الكاتب لصقٌ به من جميع أعضائه وجوارحه لأنها خلاصة حياته وزبدة نفسه وعقله وتاريخ خلايا جسمه وروحه .
في كل كاتب شيء من طبيعة النبوَة لأنه يحمل رسالة “خاصة” ولون من الحياة الى اخوانه في الحياة , لذا فلا بدَ للكاتب من نفس خارقة يحَس بها بما لا يحس سواد الناس ويفهم مالا يفهمون من اسرار هذه الدنيا وعجائب الغيب .
الكاتب يدرس جوانب من طباع النفس البشرية كما يدرس الأطباء الأعضاء الدقيقة وراء المجاهر وعلى الرسوم .
والكاتب جماله في الأسلوب جمال الفنَ الصحيح لا جمال الزيف والطلاء فبياضه كبياض الفضة وكل شيء في كتاباته يُفهم بطبيعته لا مبالغة فيه ولا تمويه
اما المنشئ “المدوَن” فهو يخدعك بالقشور فلا رسالة عنده ليؤديها للحياة وهو صاحب زينة ليس له فضيلة الكاتب وفضيلة الانسان الذي يخاطب جميع الناس بلغة الحياة , ففضيلته في حروف لا حياة فيها ولا ارتباط في معانيها وأسلوب الفكر والصياغة معا .هو رجل يعتمد البهلوانيات في الالقاء و الكتابة ويهدف الى الاستجداء الجماهيري ., فكلماته وكتاباته غير متماسكة ولا تطرح افكاراً .
المنشئ “المدون” يكتب سوانح أفكار تبهر النظر بألاعيبها ورقصاتها و لألآء اصدافها كما تبهر الآذان بنغمات الكلمات وتركيب العبارات , معان مزوَقه قلما تنجلي عن قيمة نفسية وجمال دائم .
قد يكون الكاتب ناقداً أو صحفياً أو متخصص في موضوعات معينة روائي مثلاُ أو قاص أو يكتب المقالات أو الأبحاث العلمية كعلم النفس والفلسفة والتاريخ والسياسة لكنه يكتب بأسلوب علمي متأدب .
فالقاص يمتلك أسلوب سردي في كتابته لروايات او قصص او قصص قصيرة فهو متخصص في فن الرواية الأدبية .كما ويكتب المؤلف أبحاثه بشكل ابداعي في الأدب والصحافة والأبحاث مثل نجيب محفوظ أو يكتب وهو يجول بأفكاره بشكل فلسفي مثل طه حسين والعقاد ..
أما “المدوًن” فليس عنده التزام تجاه مؤسسة كتابية معينة فهو ينشر أفكار وتجارب شخصية لغيره وكذلك خواطر وملاحظات عن غيره , وطبعا يختلف عن الصحفي الذي يمتلك مصدر المعلومة التي ينشرها أو سعى لها ميدانياً لتحقيقها , ويمتلك أدوات لغوية وصحفيه لا يمتلكها المدوَن .
هناك من يخلط بين الكاتب والمدوًن بشكل كارثي , فالمدون همٌه ان يحوز بلقب يمنحه مكانة اجتماعية أو وثيقة خبره وحقيقة أمره أنه ليس مبدعاً بل ناقلاً .
الكاتب يدور حول الكتابة وصناعتها في حقيقة عمله طوال الوقت, فالروائي كاتب كما القاص او الشاعر , اما المدوَن فتراه يتكلم حول أي شيء وبأي لغة حتى لو كانت لغة سخيفة ركيكه , وتراه يستقي اكثر معلوماته من الانترنت , وغالبا ما يكتب المدون عن نفسه وتجارب مرت عليه في حياته , فهو غير ملتزم بأسلوب كتابه , واحيانا في الحقيقة ان كل كاتب هو مدوَن ولكن ليس كل مدوَن كاتب .
غالباً يتخذ الكاتب الأوراق وسيلة لنشر أعماله , اما المدوَن فيستعمل الويب لنشر تدوينته . وبالمختصر عمل المدوَن “خربشة كلام” .
الكاتب الجيد هو من يتقن الأساسيات “مفردات ,قواعد, عناصر الأسلوب ”
أما المدوَن فهو يتكلم أكثر مما يفكر, واذا تكلم فلا يهمَه الوصول الى فكرة حقيقية
وتراه يفرط في استخدام الكلمات الرائجة من غير احتراس
ولا يهتم بتفاصيل كتابيَة او الى اين تقوده او يفتش عن المسار الصحيح ..انه يكتب مخلفَات من أفكار غيره ومن غير انسجام فتخرج مجموعة من المتناقضات .
المدوَن المتسلق في فنون الادب من شعر وكتابة القصة او الرواية رجل يسيطر عليه حب الظهور , على عكس الكاتب الحق الذي يكتب بعصارة قلبه ويتغنى بحبَه للإنسانية فتقاد له الشهرة قسرا واعترافا .
محمد مخلص حمشو