▪ نصرة ابراهيم
فجأة تحولتْ قريتي إلى مَعْلَمٍ سياحي مهم بعد أن تراكمَ الثلجُ ،وغطى جبالَها ،وبيوتَها .
ازدحمتْ بالسياح الذين جاؤوا مع عائلاتهم لالتقاط الصور ،والتمتعِ بمنظر الثلج مع أني لم أقم بأي دعايةٍ على الإعلام أدعو فيها السياحَ للسياحة الداخلية الشتوية .
ظلَّ الحالُ هكذا لمدة أسبوع تقريباً ثم بدأ الثلجُ بالذوبان شيئاً فشيئاً ،انتهى الموسم، ، وانتهى دعمُ السماء لنا بالأبيض ،
فرتبتُ دعواتِ السياحة التي سأرسلُها في الموسم القادم .
هذا ما أخبرتُ به جاري في هذا العالم فلم يعر حديثي أيّ اهتمام ،وراح يتحدث عن الموت ، وكم بلغ عددُ الوفيات في مربعانية هذا الشتاء الذي لم يشهد أشدَّ منه بحسب زعمه .
الحديثُ عن الأموات ، وعقدُ المقارنة بينهم وبين الأحياء يوحي بأن الحي المتحدثَ في عداد أولئك الأموات يقيمُ
بينهم وليس العكس .
كلما دقَّ الكوز بالجرة ينبري جاري للحديث عن موتاه ،ورفضه لمن حوله ،وتمسكه بذاك الماضي التليد الذي صار من الدوارس .
لسنا ضدّ الماضي لكننا مع الحركة الحركة التي تخلقُ آفاقاً جديدةً ، وتفتحُ للقادم سماواتٍ جديدة .
وليس كلُّ جديدٍ جميلٌ بالضرورة لكن من القبح أن نكون نسخةً عن الأمس نحاول أن نجددَ مع الأخذ من الأمس زبدةَ ما توصل إليه لكن أين الزبدة !صار الماضي والحاضر مقدمة لهراء الغد .
ماتتْ غنمةُ جاري راح يبحثُ عن نسخة طبق الأصل عنها عن حليبها ،وكلما صادف غنمةً يُخرج صورةَ غنمته تلك ،ويعقدُ المقارنة.
فينبري للحديث عنها كيف كانت تأكل ،وتشرب ، وتنام ،وتقود السيارة ، وتقضي عطلتَها الأسبوعية في مسبح
العشر غنمات.
جاري ليس خبيراً ، أو على إطلاع بعلم الجيولوجيا ،
ولا البيولوجيا ،ولا عالمَ بتروكيمياء .
لكنه كلما دقَّ الكوزُ بالجرة يتحدث عن الألماس ، والبترول ،والذهب ،ويعقد المقارنة بين مدفأة الحطب ،ومدفأة الغاز يحللُ ،ويركب حتى يقول له لسانُه : توقف عن اللغو لقد تورمتُ منك .
يغيرُ كراسي الخيزران ،ويضعُ مكانها البلاستيك ، ثم يختمُ بقوله كيفك /انتي/ بعد حديث مطول عن المتقارب والرجز وزحافات الكامل ، والصرف والاعلال بالقلب ، وطباق السلب خالطا عبَّاس بدبَّاس.
أما عني قبل أن أبدأ بكتابة الآتي كان علي الاستحمام كي تشمَّ الفكرةُ رائحةَ الشامبو ،والصابون ،فتدنو من سور عيد ميلادي الذي أجّلته من كانون الثاني إلى شباط ،ولأن المياه مقطوعةٌ ، كذلك الكهرباء استعنتُ بمدفأة الحطب ،
وقمت بتسخين (قادوس)أي برميل متوسط الحجم من الماء .
تمّ الحمامُ السعيد ،ولكن نسيتُ استخدامَ ورق الغار ووضعه في جرن الماء فلم تشمّ الفكرةُ رائحتي التي تحبُّ فطارت من رأسي .
نسيتُ أن أقولَ :إني مصدومة من هؤلاء الصيادين الذين يستغلون موسم الثلج ،ويخرجون لصيد العصافير ،
ثم يقومون بإقامة حفلة شواء لأجنحتها المتكسرة من البرد والجوع كأنهم ينتقمون من البرد الذي يعشعش في جعبة أيامهم لفقدهم الدعم المستحق بعد أن انقطعتْ السبلُ بهم بسبب تراكم ضغط مطابخ بيوتهم .
بناء عليه قررتُ أن أعودَ لأحكي عن جاري هكذا أصبحتُ ثرثارةً دون قصد بسبب مكوثي لوقت طويلٍ بين مجموعة من الثرثارين فأثّرتُ بهم وصاروا يسمعون الشعرَ ، ويقرؤون الروايات بيد أني تأثّرتُ بهم ،وصرت ثرثارةً أتناول جاري .
جاري الذي لا يعجبه العجب ولا الصيام برجب أُصيبَ بنوبة جنون العظمة ، صار يمشي كالطاووس ،وينشرُ الإشاعات آخر إشاعةٍ نشرها هذا اليوم جاء فيها :
أيامنا
باتت دوارساً لا تحتاج دعماً يسندُ رمق جيولوجيا الحنين .
باتت مومياء لا تحتاج بيولوجيا تحلل كم كانت تستهلكُ
من الطحين .
أيامنا ماتت .
هكذا عاد ليتحدثَ عن الأموات ،فعدت أتحدثُ عن قريتي كيف تحولتْ إلى مَعْلَمٍ سياحي ،والفضل للسماء ،
وليس لمختار الآثار والمتاحف ، أو جاري الذي مات في مربعانية الشتاء .