على ضفاف العاصي : من مرافىء الذاكرة : الحَصاد ..؟

 
قبل قُرابة نصف قرن كان لموسم الحصاد في قريتي قصر ابن وردان  وقع لا يمكن ان يُنسى ،بالرغم من التعب والمشقة لكننا كنا ننتظره بشغف ،ننتظره انتظار المحب …العاشق …المسافر …
مع اول تباشير الضوء نكون في فناء الدار وعلى أهبة الاستعداد ،الوالدة اعدت زوادة الحصاد وغالباً ما تكون من تمر ولبن ،إلى جانب جرّة الفخار الملفوفة بخيش مبلل بالماء للحفاظ على برودته ،صوت الوالدة الحنون يداعب مسمعي وعلي مساعدة الاهل في الحصاد والذي يمتد لاكثر من شهر ،اخي محمد والذي يكبرني بعامين يحب ان يبقى في المنزل ويقوم بكنس الغرف وخض الخضة ورفع الماء  بالدلو من البئر وسقاية الاغنام ،ومتابعة اخوتي الصغار …
الوالد جهز عدّة الحصاد …مناجل ،مغمارة ،الخرج ،و…
تضع الوالدة الجّرة على راسها ،والزوادة وعدّة الحصاد في الخرج ،الوالد يردفني خلفه على الدابة وعلينا الوصول باكراً إلى حقول الشعير والتي يبدا حصادها في اواخر نيسان ،اما القمح فيبدأ حصاده في ايار …
تتوزع الحقول في جهات عدّة من القرية ،لكن اخصبها في الجهة الشمالية وكانوا يسمونه (السهم السابع )…اما الحقول الاقل خصوبة كانت تزرع شعيراً ،وثمة محاولات لزراعة القطن والخضار من خلال مياة سطحية مالحة في الجهة الغربية من القرية (السليلة ) وزراعة الاشجار المثمرة في الجهة الجنوبية ،بعض هذه المحاولات نجح كما في كرم (ابو وجيه )والذي يحوي كل انواع الفاكهة :خوخ ،دراق،مشمش ،رمان ،تين ،عنب ….
ما ان تطأ اقدامنا الحقل يبدا الوالد والوالدة الحصاد وعليّ الانتظار لجمع الغمار بطريقة جميلة (جدل ) ومرتبة (عقب وراس) كي لا تبعثرها الرياح وسهولة نقلها بعرباية الخشب ،في هذا الوقت المستقطع ارتمي وقد غالبني النعاس على الزرع في إغفاءة قصيرة، لكن لا بد من النهوض والعمل بهمّة ونشاط ،في تلك الفترة لم اتجاوز العقد الاول من عمري ،كان لدي شغف بالارض والحصاد وجمع الغمار ،في فترة القيلولة والإفطار كنت ابحث عن أعشاش العصافير والقندريس بلونه البنفسجي الجميل ،وبالرغم من نهارات الحصاد الطويلة،حتى انه يُضرب بها المثل فيقولون (نهار الحاصود ) والحرارة المرتفعة لكن ثمة فرح يتغلغل في داخلنا ،حقول ذهبية تتماوج يمنة ويسرة ،مواسم خيّرة ننتظرها وحان جنيها ،عبث طفولي بريء ،وحنان الوالدة التي كانت تسعفني في جمع الغمار بين الفينة والاخرى …
اهالي القرية جميعهم في الحصاد ،يرددون الاغاني والاهازيج فرحاً ،
من ينتهي اولاً يساعد جيرانه ويسعفهم في حصادهم  لايام ،هي حياة بسيطة فيها الرضا والقناعة والتعاون ،لا تافف ،لا شكوى ،لا….
جميلة نهارات ومساءات الحصاد ،بهية بهاء ارواح الفلاحين بقاماتهم وسواعدهم وعيونهم التي ترنو إلى مستقبل ٍ اجمل …
*حبيب الإبراهيم
المزيد...
آخر الأخبار