على الرغم من البعد الزمني ، الذي يفصل بيني وبين خمسينيات و ستينيات القرن الماضي ، فإن ذاكرتي مازالت تحمل بين طياتها ماكان يجري في مطلع كل خريف ، ذلك الفصل الذي يأتي مباشرة بعد أيام الحرارة ، والذي تبدأ فيه نسمات البرودة بالانتشار في الأجواء المحيطة ، مازلت أذكر ماكان يقوم به والدي ، حين يقدم على شراء حملين محمولين على حمارين ، الحمل الأول هو حمل (الحطب) ، وهو الحمل الذي نضعه في (السقيفة) لاستخدامه في إشعال مدفأة الحمام ، وأما الحمل الثاني فهو حمل (الفحم الأسود) ، الذي نختزنه في ركن من أركان (قبو) تحتضنه دارنا العربية القديمة ، والفحم كان وقودا للكانون (المنقل) ، الذي كان وسيلة وحيدة لتدفئة أية غرفة من غرف البيوت العربية ، نشعله ، ونقوم بتهويته ، حتى يتحول الى جمرات حمراء ملتهبة ، ثم نضعه كتلا متماسكة على (رماد) الكانون ، وندخله إلى غرفتنا التي تتمتع في الأصل بجدران (سميكة) عازلة ، وهكذا نقتصر على هذين الحملين .. حمل الحطب ، وحمل الفحم ، فتمر أيام البرودة كلها ، ونحن في غاية الاطمئنان إلى أن الدفء حليفنا ، في كل وقت ، وفي كل ظرف … كل ذلك بجهود بسيطة ، وبتكاليف زهيدة ، لاترهق جيوبنا ، بل جيوب أي مواطن مهما يكن مستواه المادي .
اما الأداة المستخدمة في طهي الطعام ، فقد كانت وابور (الكاز) ، وكان الكاز متوفرا في كل كازية وفي كل بقالية ، وماعلينا إلا أن نحمل وعاء مخصصا ، لنبتاع (بلورة) كاز تكفينا عدة أيام ، إن لم نقل عدة أسابيع ..
بصراحة .. لم تكن هناك أزمة وقود ، ولم يكن هناك خوف من البرد ، إلى أن وصلنا إلى هذه الأيام الصعبة، فنحن الآن نتعرض لأزمات لم نكن نعرفها من قبل ، أزمات الغاز وأزمات المازوت وأزمات الكهرباء.
فما أحلى الأيام الخوالي أيام البساطة والوفرة.
ولايزال لدينا أمل كبير، في أن يسعى السادة المسؤولون إلى سد كل نقص، وردم كل ثغرة، وتصحيح كل اعوجاج، وليس هذا عليهم بصعب أو مستحيل، فالدروب مازالت سالكة أمام كل إصلاح، والأبواب مازالت مفتوحة أمام كل مجتهد، وأمام كل مخلص، وأمام كل ساعٍ نحو خير المواطنين وخدمتهم ورفاهيتهم.. نأمل دائماً أن تعود الأمور إلى ماكانت عليه، بل تعود إلى أفضل بكثير مما كانت عليه.
د . موفق أبو طوق