تسربت الفوضى إلى أوساط الأدب بشكلٍ عام, وإلى الشعر بشكلٍ خاص, بعد أن انتشرَ مصطلح (قصيدة النثر) وبرز أعلام كبار كتبوا في هذا الشكل الأدبي, فصارت الأقلام تسيلُ جارفة معها كلّ ما خطّه المبدعون منذ عصور, وما وضعه النُّحاة واللُّغويون وأهل الأدب والنقّاد من أصول وقواعد للشعر.
كلّ ذلك سعياً للوصول إلى لقب شاعر أو شاعرة.
في العصر الذهبي للأدب كان هناك شعراء وكتّاب , كلٌّ منهم يبدعُ في صنف من أصناف الأدب, ومع أنّ كتّاب النثر الفني كان يمتلكون كلّ مقومات الكتابة الأدبية , من لغة ونحو وصرف وإلمام بالشعر العربي وزناً وقافية وبياناً وبلاغة , وما كان يعجزهم أن ينظموا الشعر, شأنهم في ذلك شأن شعراء سبقوهم أو عاصروهم , والأمثلة كثيرة نذكر منهم ابن المقفع وعبد الحميد الكاتب والجاحظ وابن العميد والأفغاني وغيرهم , إلاّ أنه لم يدّعِ أحد منهم أنه شاعر, لينافس جريراً أو الفرزدق أو المتنبي أو أبا تمّام أو البحتري أو غيرهم من الشعراء, بل كانت منافستهم فيما أبدعوه من نثر فني جعل أصحابه يحتلون مكانة رفيعة سجلها التاريخ بحروف من نور. فمن منّا لا يذكر ابن المقفع أو الجاحظ , بينما أغفل التاريخ الكثير من الشعراء المغمورين الذين كانوا مقلّدين أو هواة, على الرغم من أنّ بعضهم حاق به ظلم الواقع على اختلافه. كان كتّاب النثر الفني يفاخرون بما أبدعوه من نتاج نثري.
ولو استطال بنا الحديث إلى العصر الحديث لرأينا أدباء كثر أمثال المازني ونعيمة وطه حسين وغيرهم, لم يلهثوا وراء لقب شاعر واكتفوا بلقب أديب, حازوه بما خطته أقلامهم من نتاج في النثر الفني بمختلف أشكاله .
ولئن كانت ظاهرة (قصيدة النثر) جاءت تمرّداً على فلسفة الغرب وحروبه وماديته الصناعية والرأسمالية , وهذا لا علاقة له بواقع العرب وليس لهم يد فيه, وانتقلت هذه الظاهرة إلى أدبنا عبر الترجمة والتواصل مع الغرب والثقافة الغربية, ونحن لا ننكر ضرورة التواصل وفائدته، لكننا نعيب تقليد الآخرين وترك أصالتنا بحجة الحداثة وما بعد الحداثة .
يعيب دعاة الحداثة على أدبنا وشعرنا أنّه منظوم . مع أن ذلك من خصائص القصيدة العربية، والنظم ارتقاء بالحالة الشعرية من الفوضى إلى النظام , إذا كانت قصيدة النثر كما يقول بعضهم هي قصيدة الحريّة , فمتى كانت الحرية بلا قيود؟ هل أكوام الحجارة المتناثرة تسمى بيتاً إن لم تبنَ وفق مخطط هندسي؟ أوهل اللآلئ المتناثرة تسمى عقداً إن لم تنظم في سلك؟ لابدّ لكلّ عمل فني , سواء كان كلاماً أو لوناً أو حجراً من أن تكون له قواعد تضبطه, وإلا فإن أية صخرة مرمية في الفلاة يمكن أن يدّعي أحدهم أنّها منحوتة فنية , وهكذا!
يكفينا عبثاً بكلّ شيء بحجة الحريّة! والسؤال الأهم: لِمَ يخجلُ كتّابُ النثر من تسميتهم كتّاباً وليسوا شعراء؟ هل لقب شاعر يزيدهم مكانة عند الناس؟ لم يكن الأديب الراحل عبد السلام العجيلي شاعراً مع أنّه كان قادراً على نظم الشعر. ومع ذلك فقد احتلّ مكانة رفيعة وسامية في عالم الأدب. الأدب بكلّ أنواعه وألوانه أدب , بشرط الموهبة والخبرة والتمرس والثقافة المتنوعة والتميّز والإبداع. ولا فضلَ لنوع على آخر, كما لا فضل لشاعر على روائي أو قاص ماداموا يبدعون!
فائق موسى