بين الأصالة والتغريب

دعونا نتفق أولاً أيها القراء الأعزاء على أن التطرف في أي شيء، مرفوض وعواقبه وخيمة، وهو سلوك مستهجن، وصاحبه لايجد حوله إلا من يشاكله في تطرفه.. والتطرف يعني الانغلاق وعدم تقبّل رأي الآخر، والتعصب الشديد لفكر ما.
فالذين تطرفوا في موقفهم من التراث العربي فتعصبوا لكل ما فيه دون أن يميزوا الغث والسمين منه، يدورون في هذا الفلك المذكور، وأما الذين وقفوا من التراث العربي موقف المعتدل الذي وقف مع الجوانب المضيئة منه، واعتز به، وبقي على تواصل معه، فهؤلاء بعيدون عن التطرف كل البعد.
والفريق المتطرف الآخر، هو الذي رفض كل التراث العربي جملة وتفصيلاً بحجة أن الوقوف عنده جمود وتخلف يمنعنا من التقدم والنهوض.. وعليه فإن هذا الفريق دعا لتجاوز التراث العربي، والتوجه نحو ماعند الغرب من علم، وثقافة ومصطلح يؤدي جميعها بنا للنهضة والتقدم والتخلص من واقعنا المتردي.. ونجد أنصار هذا الفريق يستخدمون المصطلحات الأجنبية، والكلمات الأجنبية، ظناً منهم أن ذلك يجعلهم في نظر الآخرين على ثقافة عالية متميزة وفكر مستنير.. ناسين أن هذا من القشور التي لا تقدم ولا تؤخر، وأن علماءنا العرب قد سبقوا الغرب في كثير منها (وأعني هنا مصطلحات الأدب والنقد العربي لا العلوم التطبيقية البحتة)، ونسمع هؤلاء يتحدثون من المنابر الثقافية بتلك المصطلحات الأجنبية ليظهروا مدى ثقافتهم، ويستعرضوا عضلاتهم، ويتعالوا على الناس… فيسأم الجهمور من كلامهم الجاف السقيم المتكلف الذي لا ضرورة له، لأنه دخيل على موضوع المحاضرة.
وأذكر هنا، أن أحد المؤلفين قضى سنوات طويلة يؤلف كتاباً في تفسير القرآن الكريم، وحين قرأه أحد العلماء قال: هذا الكتاب فيه كل شيء إلا التفسير.
وكما أن العمارات الفخمة، والأبراج الشاهقة، والسيارات الحديثة لا تعني التقدم والحضارة في بلد متخلف، فإن استعمال المصطلحات والكلمات الأجنبية لا يعني الثقافة والحداثة.
ولكن لابأس أن أختم هنا مقالتي بما يبعث الابتسامة من موقف الشعراء من التطرف، فنزار قباني رأى التطرف في الحب شيئاً رائعاً، بل عبادة حين قال لمحبوبته: (حبك ياجميلة العينين تصوف تطرف عبادة)، وشاعر آخر تطرف في ذلك أيضاً حين رأى الفقر رائعاً وجميلاً، ولكنه الفقر لمحبوبته فقال:
ويعجبني فقري إليك ولم يكن
ليعجبني، لولا محبتك الفقرُ
وكلنا يعلم أيها الأعزاء أن للشعراء تميزهم في كل شيء عن الآخرين، وهم الشعراء الكبار الحقيقيون ليس غير.
د. موفق السراج

 

المزيد...
آخر الأخبار